مازال العالم يعيش حالة من الغموض والترقب فيما يتعلق بتوجهات الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب رغم ما أعلنه خلال حملته الانتخابية من نوايا واتجاهات واضحة. بل صادمة في وضوحها تجاه قضايا داخلية وخارجية مختلفة. وابتداءً فإنه يبدو ان عملية نقل السلطة من إدارة الرئيس أوباما المنتهية ولايته. إلي الرئيس القادم والتي يتولاها فريقان من الإدارتين. تواجه بعض التحديات رغم انها عملية تقليدية تتم مع انتهاء ولاية كل رئيس أمريكي وانتخاب رئيس جديد. دون مشاكل أو تحديات. ولعل البعض لم ينتبه إلي تصريح أدلي به الرئيس أوباما هذا الأسبوع. وقال فيه انه إذا استشعر مساسا ب "القيم الأمريكية" خلال عملية نقل السلطة. فسوف يضطر إلي دراسة الأمر. وهو تصريح غير مسبوق في تاريخ الرئاسة الأمريكية. ويكشف ليس فقط عن أن عملية نقل السلطة تواجه تحديات. بل انها تواجه "تهديدات" دون أن يبين أوباما نوع أو حجم هذه التحديات أو التهديدات ولا ماذا يعني بأنه سيضطر إلي دراسة الأمر. وباعتبار ان عملية انتقال السلطة. والتسليم والتسلم هي أول خطوة علي طريق دخول الرئيس الجديد للبيت الأبيض وأدائه القسم في 20 يناير فهذا يعني أننا أمام مشكلة في أول خطوة. وهو ما يؤكد حالة الغموض والترقب التي يعيشها العالم. بل ويعيشها الأمريكيون أنفسهم. وفي العادة فإن الخطوة الثانية من خطوات المرحلة الانتقالية. ما بين إعلان نتيجة الانتخابات في 9 نوفمبر والاستلام الدستوري للسلطة في 20 يناير هي تشكيل الرئيس الجديد لإداراته التي سيدخل بها البيت الأبيض. وأهمية هذه الخطوة. هي انها تكشف للأمريكيين في الداخل وللعالم في الخارج عن توجهات الرئيس الجديد من خلال نوعية وتاريخ الشخصيات التي يختارها لتولي مناصب إدارته وعادة ما يتم التركيز علي ست شخصيات محددة باعتبارها كاشفة عن نوايا الرئيس الجديد وتوجهاته. وهذه الشخصيات الست هي: رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض. ومستشار الرئيس للأمن القومي. ووزير الدفاع ووزير الخارجية ووزير العدل ومدير وكالة المخابرات المركزية "سي.اي.ايه". وحتي الآن لم ينته ترامب إلا من اختيار ثلاث شخصيات فقط بصفة نهائية من بين هؤلاء الست وهم مستشار الأمن القومي ووزير العدل ومدير ال "سي.اي.ايه" بينما مازالت المشاورات جارية حول بقية الشخصيات وان كان منصب رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض أيضا في سبيل الحسم. والسائد في أي دولة في العالم ان الرئيس يختار لمثل هذه المناصب "السيادية" المهمة الشخصيات التي يثق في قدرتها علي تنفيذ سياسته وليس تغييرها وبالتالي فلابد أولا ان تكون سياسات الرئيس وتواجهاته واضحة وهو ما لا يتوفر بشكل تفصيلي ودقيق بالنسبة للرئيس ترامب حتي الآن رغم كل ما أعلنه من تصريحات وأطلقه من شعارات قبل وبعد فوزه بالرئاسة. ويعول البعض كثيرا علي شخصية نائب الرئيس صاحب الخبرة السياسية والبرلمانية الكبيرة من خلال عضويته في الكونجرس لعدة دورات متتالية ومن خلال آرائه وتوجهاته المتزنة في ان يقوم بمهمة ضبط ايقاع الرئيس وترشيد توجهاته خاصة وان ترامب اعطاه صلاحيات لم يسبق لنائب رئيس أمريكي ان حصل عليها في أي ادارة سابقة ومنها الاشراف علي عملية نقل السلطة للادارة الجديدة والقيام بدور أساسي في ترشيح أعضاء هذه الادارة. لكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفا إذ لم يظهر لنائب الرئيس تأثير في ضبط ايقاع ترامب وترشيد تصريحاته أو توجهاته خلال الحملة الانتخابية وليس معروفا ان كان له دور في تراجع ترامب بعد الفوز عن بعض تصريحاته قبلها أم ان هذا التراجع كان نتيجة ضغط الرأي العام الأمريكي مثل التراجع عن بعض التصريحات الخاصة بالمسلمين داخل أمريكا أو تلك الخاصة بملاحقة هيلاري كلينتون قضائيا بشأن اتهامها بإساءة استخدام الإيميل الخاص بوزارة الخارجية عندما كانت وزيرة لها. نستطيع أن نقول - إذن - ان الأسبوعين اللذين مضيا منذ اعلان فوز ترامب بالرئاسة حتي كتابة هذه السطور. لم يساهما بشيء ذي بال في إزالة الغموض أو تخفيف حالة الترقب التي يعيشها العالم إزاء توجهات الرئيس الأمريكي الجديد. بل أكاد أضيف ان أحد أبرز فعاليات ترامب خلال هذين الأسبوعين انتهي إلي مزيد من الغموض في سياساته وتوجهاته المرتقبة. فقد رأينا ان أول رئيس أجنبي يزور الولاياتالمتحدة للقاء ترامب بعد فوزه بالرئاسة وإجراء مباحثات معه. كان رئيس وزراء الياباني "شينزو آبي" الذي خرج من الاجتماع بانطباع طيب عن ترامب وأعلن عقب المباحثات ان التعاون ممكن معه. وبعد أن غادر رئيس وزراء اليابان بأيام قليلة. فاجأ ترامب العالم أول أمس فقط باعلانه ان أول قرار سيتخذه في أول يوم لرئاسته. سيكون الانسحاب من "اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي" التي وقعتها 12 دولة آسيوية علي رأسها اليابان عام 2015!! *** لقد لخص ترامب توجهاته المستقبلية. سواء خلال حملته الانتخابية أو بعد فوزه بالرئاسة في شعارين متقاربين هما: "أمريكا أولا".. و"أمريكا عظيمة مجددا". والشعاران يمثلان نموذجا للشعارات الدعائية. من حيث بساطة الصياغة وسهولة الترديد وجاذبيتهما لاستقطاب الجماهير. لكن. عندما نأتي إلي التطبيق العملي علي أرض الواقع يبدو الشعاران غامضين وفي حاجة إلي كثير من الايضاح والتفنيد. وعلي سبيل المثال فإن ترامب أضاف في تصريحه أول أمس الذي أعلن ان أول قرار رئاسي له يوم 20 يناير القادم سيكون انسحاب أمريكا من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي.. اقول انه أضاف في نفس التصريح ان الإجراءات الستة الأساسية التي سيتخذها خلال المائة يوم الأولي من رئاسته. ستعتمد كلها علي مبدأ أساسي هو: أمريكا أولا. هذا يثير علامات استفهام عديدة حول ما يعنيه الرئيس الأمريكي الجديد بمبدأ أو شعار "أمريكا أولا". فبصرف النظر عن لجوء ترامب للاستخدام الرقمي في تصريحاته مثل قرار اليوم "الأول".. والإجراءات الستة خلال ال "100" يوم الأولي فإن جمعه في تصريح واحد بين الانسحاب من اتفاقية دولية جماعية هي اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي كأولوية أولي لا تحتمل التأجيل ولو لليوم الثاني من توليه الرئاسة وبين الإجراءات الستة التي قال انها ستعتمد علي مبدأ أساسي هو "أمريكا أولا".. هذا الجمع أو الربط يثير سؤالا جوهريا هو: * هل يعني الرئيس الأمريكي الجديد بشعار أمريكا أولا. انسحاب أمريكا من الساحة الدولية إلي الداخل واتجاهها إلي عصر من العزلة؟! * أم ان هذا التلويح بالانسحاب من الاتفاقية هو نوع من الضغط الاستباقي علي أطرافها الذين ربما تتحمل أمريكا أعباء مالية بمقتضي هذه الاتفاقية من أجلهم حتي يعيدوا النظر في الاتفاقية ويحصل ترامب علي أفضل شروط لأمريكا حتي تستمر في عضويتها بها؟! الاحتمال الثاني - في تقديري الشخصي - هو الأرجح في ضوء متابعتي لأسلوب ترامب خلال حملته الانتخابية وفلسفته في التعامل مع القضايا المختلفة ومع أطرافها أيضا. لقد مارس كمرشح رئاسي خلال حملته الانتخابية نفس الأسلوب الذي يمارسه في حياته العملية كامبراطور أو سمسار عقارات.. فهو ينظر لأمريكا وادارتها نظرته لشركة تهدف إلي الربح ويجيد دوره الذي يطلق بنفسه عليه وصف "صانع الصفقات". وهو ينتج في سبيل ذلك أسلوبا يعتمد علي المبادأة بالهجوم والترويع ونشر الخوف بين كل من يريد أن يربح من ورائهم شيئا.. لا فرق في ذلك بين أن يكونوا حلفاء أو منافسين أو حتي اعداء فهو يهدد الإرهاب بحرب شعواء ويتوعد المهاجرين والمسلمين داخل الولاياتالمتحدة بالترحيل الجماعي فورا ويطالب الحلفاء مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية والسعودية بدفع ثمن حماية الولاياتالمتحدة لهم.. إلي آخره. كل ذلك ليحصل من كل من هؤلاء في النهاية علي أكبر قدر من المكاسب لأمريكا. وهو أسلوب تفاوضي في صفقات "البيزنس". يطبقه ترامب في صفقاته السياسة الدولية. لكن. رغم ذلك سيظل العالم يعيش حالة من الغموض والترقب. حتي يكشف ترامب تدريجيا عن كل أوراقه.