في منتصف تسعينيات القرن الماضي تعرضت البلاد لموجة هائلة من السيول والأمطار فاقت بكثير ما تعرضت له بعض محافظات الصعيد مؤخرا. حيث غمرت المياه العديد من المدن والمحافظات وكانت الكارثة الأكبر في محافظاتأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر حتي دخلت المياه وقتها في مقابر وادي الملوك والملكات بالبر الغربي بالأقصر بارتفاع وصل إلي نصف متر أو يزيد في بعض هذه المقابر الفرعونية المهمة. هاجت الدنيا حينها في مصر وخارجها بسبب تعرض كنوزنا الأثرية في الأقصر لخطر السيول واتهم البعض الحكومة المصرية بعدم تأمين وحماية هذه المواقع الأثرية الفريدة من هطول الأمطار والسيول. وعندما شكلت وزارة الثقافة المعنية بالآثار في ذلك الوقت لجنة فنية تضم خبراء من الوزارات والهيئات المتخصصة كانت المفاجأة التي أذهلت الجميع حيث اكتشفت اللجنة أن السبب الرئيسي وراء تجمع المياه حول المقابر الأثرية بكثافة حتي تجاوزت الأعتاب والمصدات يرجع للتعديات التي وقعت من أهالي "القرنة" بالبر الغربي وبناء المنازل والمحلات فوق مخرات السيول التي شيدها أجدادنا الفراعنة قبل آلاف السنين لحماية هذه المقابر من مخاطر السيول وتساقط الأمطار. وعلي الفور كان القرار بإزالة هذه التعديات وإعادة فتح مخرات الفراعنة لإنقاذ وحماية كنوزهم الأثرية. تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع ما حدث من مآس بل وكوارث حلت بأهالينا في الصعيد بسبب السيول خاصة في محافظة البحر الأحمر وتحديدا في مدينة رأس غارب التي تحولت في لحظات معدودة إلي "رأس غارق". وللأسف دمرت مياه الأمطار والسيول غالبية البنية التحتية في المدينة ومعها العديد من مدن وقري محافظات الصعيد. وكل ذلك بسبب افتقادنا لما فطن إليه الأجداد قبل آلاف السنين حينما شقوا المخرات حول المواقع والمقابر والمعابد الأثرية تحسبا لأي أمطار أو سيول وهو ما لم نفعله نحن هذه الأيام فكانت النتيجة الغرق في "شبر مية" وربما أقل!! قبل 6 سنوات تقريبا كنت في زيارة إلي استراليا ولفت انتباهي هطول الأمطار علي مدينة "ميلبورن" حيث إقامتنا طوال 24 ساعة والغريب أن الشوارع تكاد تكون نظيفة ولم نلحظ تجمعا للمياه أو انسداداً في البالوعات وبسؤالنا عن ذلك أوضح لنا أحد المرافقين أن استراليا تعتمد بشكل أساسي علي مياه الأمطار في الزراعة وكذلك الشرب وغيرها من الأمور المتعلقة بالمياه حيث يتم صرف وتجميع مياه الأمطار عبر قنوات أعدت خصيصا لنقلها إلي محطات تحليله. أي أن الأمطار والسيول لديهم نعمة وخير وعندنا نقمة وشر للأسف وذلك بسبب عدم التخطيط الجيد للاستفادة من هذه النعمة التي يصلي البعض من أجل سقوطها خاصة في دول الخليج!! لعل الأمطار والسيول التي غمرت قري ومدن الصعيد وخاصة رأس غارب كما ذكرت تكون بمثابة جرس الإنذار لحكومتنا الموقرة في التحرك السريع والتخطيط الجيد لمنع تكرار الكارثة والعمل علي الاستفادة من الأخطاء. بل والاستفادة من ملايين الأمتار المكعبة من المياه التي من المتوقع هطولها علي البلاد خلال فصل الشتاء القادم. والأهم ضرورة التنسيق بين الوزارات والجهات المعنية وفي مقدمتها هيئة الأرصاد الجوية لتحديد مواقع وتواريخ هطول الأمطار مستقبلا وإعلان الطوارئ والاستعدادات بهذه المواقع والمحافظات مع ضرورة توعية المواطنين وحثهم علي عدم السير في الطرق والشوارع التي قد تكون عرضة لتجمعات المياه والسيول. أخيرا وليس آخرا. كالعادة كانت قواتنا المسلحة عند حسن الظن فيها دائما وتحركت بسرعة لتقديم العون والدعم لأهالينا وإخواننا في المحافظات المضارة خاصة في مدينة رأس غارب. وهذا هو جيش مصر العظيم الذي يحافظ علي شعبها وأمنها القومي برا وبحرا وجوا.. والحمد لله علي نعمة الجيش الوطني المصري.