قبل استقالته بيومين.. قال محافظ البنك المركزي السابق هشام رامز. كلماته الأخيرة بكل صراحة نابعة من قلب مهموم وعقل مجهد من شدة الضغوط ومحاولات الحصار وتقاعس الحكومة عن مساعدته إن لم تكن قد عرقلته وأصابته باليأس.. وهي أيضا بمثابة وصية وتحذير لسلفه ولأولي الأمر جميعا. بأن من يترك المحافظ -أي محافظ- وحده يقود أشد معارك الاقتصاد ضراوة. لن يجني سوي الفشل ولن يقدم للشعب سوي المزيد من المشاكل والمعاناة. من بين ما قاله رامز: "لن أترك الاقتصاد والمواطن لعبة في أيدي تجار العملة من يعترض علي قراراتي هم مستوردو السلع الترفيهية وأصحاب المصالح.. فاتورة الواردات والخدمات كلفت مصر في العام الماضي 80 مليار دولار وسوء أزمة النقد الأجنبي رغم انخفاض أسعار السلع عالميا بنسب تصل إلي 50% إلا أنها لاتزال ترتفع في مصر بشكل غير مبرر.. المركزي لا يخفي الدولار وليست مهمته جذبه والمطلوب تحفيز الاستثمار وتشجيع السياحة" وأخيرا: "ليس من المنطقي تغليب رغبات أصحاب المصالح علي حساب البلد". تلك الكلمات وما سكت عنه رامز وما أكثره وأخطره يؤكد أن المشكلة أساسا مع التسليم بتأثير مواصفات كل شخصية إلي حد ما. ليست غالبا في رامز وأن الحل ليس في يد طارق عامر المحافظ الجديد لأنه حتي لو امتلك عامر عصا سحرية وقدرات جبارة بدون أن يدرس جيدا تجربة رامز بكل مالها وما عليها وأسباب وظروف وصولها إلي طريق مسدود.. وإذا لم تعترف الحكومة بأخطائها وتتحمل مسئوليتها وتتخذ قرارات سريعة وجريئة لتذليل العقبات التي تواجه أي محافظ.. إذا لم يحدث ذلك فلنا أن نتوقع أن يرفع طارق عامر بعد فترة الراية البيضاء! المؤسف أن أهل الاقتصاد زهقوا من تكرار الحديث عن أسباب نقص الدولار واستنزاف الحفنة التي نملكها منه واقتراح الحلول المتاحة الآن وغدا. ولكن المأساة أنه لا أحد يتحرك. مثلا لتقليل فاتورة الواردات 68 مليار دولار بجانب 10 مليارات أخري تكلفة السلع المهربة بزيادة 70% عن 2011 وذلك من خلال مواجهة طوفان السلع الكمالية "حوالي 102 سلعة بقيمة حوالي 10 مليارات دولار". ويمكن لمن يريد مساندة الاقتصاد المريض ويقوي قلبه علي "زعل" الأثرياء وأصحاب المزاج وعشاق الملابس والعطور والماكياج "السينية" والكافيار والمكسرات وغيرها ومن يدلل حيواناته بالأكل الأوروبي. أن يمنع هذه الأنواع أو يضاعف الجمارك عليها لأعلي درجة دون أن يرفع في وجوهنا حجة اتفاقية الجات التي تسمح بعض بنودها بإجراءات الحماية والإنقاذ وربما يكون الحل كما يري رجل الأعمال د.محمد تيمور في زيادة ضريبة المبيعات للهروب من قيود الجات.. والمهزلة أنه رغم كل قفزات الدولار واستنزاف الاحتياطي الذي لا يزيد علي 16.8 مليار دولار. 15 مليارا منها ودائع يجب إعادتها بعد فترة لأصحابها من أهل الخير وأيضا الشماتة "ولوي الذراع" كما حدث مؤخرا مع الوديعة القطرية.. رغم ذلك لم تتخذ الحكومة أي إجراء عملي في هذا الاتجاه رغم ما قيل من وجود قوائم جاهزة لترشيد السلع الكمالية المستوردة من أيام حكومة إبراهيم محلب ولكن لم يقترب منها أحد بقرار تنفيذي علي الأقل لمساعدة الفدائي الجديد طارق عامر!. أيضا لم نجد أي قرارات متكاملة لتذليل عقبات جذب المستثمرين وكذلك تخفيض الواردات الأساسية عموما من خلال دعم الإنتاج المحلي مثلا بزيادة مساحات المحاصيل الزيتية والذرة الصفراء لتوفير بعض مليارات استيراد الزيت والعلف أو قرار آخر بدعم مراكز البحوث الزراعية ومركز بحوث الصحراء بدلا من تخفيض موازنتها إلي الربع هذا العام!! وذلك لتوفير تقاوي أفضل واكتشاف سلالات توفر إنتاجية أكبر للقمح والذرة وغيرها والتوسع في زراعة محاصيل التصدير مع الاستفادة من تجارب الدول الأخري التي يعرفها كل خبراء الزراعة ومنهم د.محمد عمارة الذي لايريد أحد الاستفادة من خبراته! أيضا لم نجد أي إجراء بتفعيل قرار تفضيل المنتج المحلي وعدم استيراد ماله بديل لدينا لتشجيع الصناعة ومواجهة البطالة وتخفيض الاستيراد وكذلك إجراءات تنفيذية لترشيد الانفاق الحكومي وفتح المصانع المغلقة وإنقاذ الأفراد المهددة مثل مصانع السكر نتيجة استيراد سكر رغم وجود مخزون محلي بحوالي 2.4 مليار دولار رغم صرخات رئيس شركة الدلتا للسكر قطاع عام واستغاثاته المنشورة بالصحف منذ عدة شهور!! المؤكد أن رغم التقدير لاستقلالية البنك المركزي فإنه لا يمكن أن يعمل في جزيرة منعزلة بعيدا عن المجموعة الاقتصادية والقيادة السياسية وعلي الحكومة أن تنفذ روشتة الخبراء لجذب الاستثمارات وترشيد الواردات لتوفير الدولار وإنقاذ الجنيه حتي لا يضطر بعد فترة الله يعلمها وحده. للبحث عن محافظ ثالث.. ولكن ربما بعد خراب مالطة. من ينقذ محدودي الدخل؟ في كل اجتماع للرئيس عبدالفتاح السيسي مع الحكومة أو بعض أعضائها يؤكد لهم ضرورة توفير السلع لمحدودي الدخل بأسعار معتدلة.. وبعدها نجد مجلس الوزراء يؤكد ضرورة تحقيق هذا المطلب ثم تتوالي التصريحات الوردية من الوزراء والتي تحمل الوعود والنوايا الحسنة بدون اتخاذ أي إجراءات تنفيذية رغم أن ذلك هو المهمة الأساسية للحكومة. مثلا.. نجد أن وزير التموين يؤكد في كل مناسبة أن زيادة المجمعات الاستهلاكية وتطويرها هو الحل وعندما نصدق ذلك ونتوجه فورا لأقرب مجمع من بيتك تجد بالفعل كل شيء موجودا ولكن عند السؤال عن السعر تجد الفرق بالمقارنة مع أقرب سوبر ماركت أو محل الخضر والفاكهة أو حتي باعة الأرصفة لا يتعدي تخفيضا لا يتجاوز عدة قروش لا يساهم في تخفيف الأعباء عن متوسطي أو محدودي الدخل.. المشكلة التي قتلت نشرا ومكلمة بالفضائيات أن وزارة التموين تشتري ما يعرض بالمجمعات ربما باستثناء اللحوم من نفس مصدر السوبر ماركت وحتي البائعين السريحة وهو تاجر الجملة وكل ما تقوم به من تخفيض بسيط يكون ناتجا عن تقليل هامش الربح مع تحمل تكلفة وأعباء أكبر للعمالة والمحال والمخازن.. ما لا تفعله الوزارة وربما لا تجرؤ عليه هو كما قاله الجميع دون جدوي هو التمرد علي هذه الصيغة والشراء مباشرة من الفلاح ومن المصنع لمواجهة مافيا تجارة الجملة التي تظلم المزارع والمستهلك وتحصد الملايين بلا جهد.. ويكمل ذلك عودة هيئة السلع التموينية إلي دورها الأصلي باستيراد ما تحتاجه آلاف الفروع من الواردات بشكل مباشر من الخارج وبالتالي فإن الفرق الكبير الذي ستبيع به المجمعات وكذلك منافذ وزارة الزراعة والقوات المسلحة التي ستستفيد من هذا النظام سيجبر تجار الجملة والسلاسل التجارية وغيرها علي الخضوع والبيع بما يرضي الله.. مأساة حكوماتنا بلا تفرقة أنها نادرا ما تستمع إلي تحذيرات ونصائح المخلصين لوطنهم والمنحازين بصدق لقيادته وناسه مهما كانت بعض انتقاداتهم قاسية أحيانا.. وهي أيضا أكثر ندرة في تنفيذ تلك النصائح في الوقت المناسب خاصة أن خطواتها الفعلية بطيئة وسط سيل الوعود والكثير من قراراتها غير مدروس جيدا وهو ما يضطرها عدة مرات إلي التراجع فيكون "شكلها وحش" وتتعرض هيبة الدولة للاهتزاز كما حدث مؤخرا مع قرار درجات السلوك و"الحضور" بالمدارس وهو صحيح ومهم جدا ولكن المشكلة كانت في التوقيت الذي يتناقض مع ازدحام الفصول ونقص المدرسين والمدارس وأزمة صيانتها وبالتالي عندما رضخت الحكومة لمظاهرات الطلاب خرجت المانشيتات الساخرة: "وانتصر التلامذة"!