لم تعد تفاصيل حياة الناس أمراً يخصهم فقط.. معاناتهم ومشاكلهم وربما أدق خصوصياتهم داخل بيوتهم صارت "علي عينك يا تاجر".. والاسم "برامج فضائية" تعيش عليها بعض القنوات الخاصة التي تستخدمها في جذب الإعلانات. أما الدور الإعلامي الذي يعايش هموم الناس ويطرحها في قالب موضوعي بحثاً عن حلول واقعية فيبقي علامة استفهام كبيرة. إذ لا صلة له بما نراه علي "الشاشة الصغيرة" التي صارت تبحث عن "الأرباح الكبيرة". ولو كانت تجارتها هي الناس أنفسهم. "مفبركة" الدكتور سامي الشريف -عميد كلية الإعلام بالجامعة الحديثة والرئيس السابق لاتحاد الإذاعة والتليفزيون- يري أنه في ظل المنافسة الشديدة بين القنوات الفضائية لجذب المشاهدين وكسب المزيد من المعلنين أصبح أول اهتماماتها طرح القضايا التي تشغل الرأي العام. فظهرت برامج تسمي "توك شو" ولكن نتيجة أنها اقتصرت علي أفكار وضيوف بعينهم بدأ يمل منها المشاهد حلت مكانها برامج المسابقات كأفضل مذيع ومطرب وراقص. ثم أخيراً زادت برامج "الطابع الإنساني" التي تبحث عن قضايا تجذب تعاطف المشاهد. أضاف: بعض هذه البرامج متاجرة بآلام الناس وجزء منها "مفبرك" ويعطي مزيداً من الإثارة لأنها تمس الحياة الإنسانية. ولكن عندما يحدث مبالغة في طرح أوجاع الناس وتأخذ شكل الاصطناع فهذا خارج المهنية الإعلامية. خاصة إذا تم اللجوء إلي المتاجرة بمشاعر الناس. أما د.محمود علم الدين -أستاذ الإعلام بكلية الإعلام جامعة القاهرة- فيؤكد أن تلك النوعية من البرامج تعرض المعاناة الإنسانية لأصحاب المشكلات وهو دور الإعلام الحقيقي. فالبرامج الجماهيرية هي الأساس سواء كانت تستعرض قضايا اقتصادية أو اجتماعية تمس الحياة اليومية. لا ننكر السعي لجذب أكبر عدد من المشاهدين ولكنها أيضا تسعي لمساعدة تلك الحالات الإنسانية. لذلك أري أننا لا نعمم أن تلك البرامج فيها نوع من المتاجرة لأن الهدف الأساسي للإعلام الحقيقي أن يبعث بروح المسئولية الاجتماعية ويقوم بدوره الخدمي حتي تصل رسالته إلي أكبر عدد من الوماطنين وتعزز قيم اجتماعية بدأنا نفتقدها. لفت د.علم الدين إلي أن الخوف من أن يكون لهذه البرامج جانب سلبي واحد فقط بأن يتحول المواطن إلي مؤد يعرض ظروفه ومعاناته مقابل ثمن مادي. فيما تتاجر القناة بظروفه تلك بنسب مشاهدة أعلي تضمن فواصل إعلانية أكثر. فضائح من جانبه أرجع د.صفوت العالم -أستاذ الإعلام ورئيس لجنة تقييم الأداء الإعلامي- كثرة تلك البرامج في الآونة الأخيرة إلي حالة التشبع لدي المشاهد المصري من القضايا السياسية التي جعلت القائمين علي تلك القنوات يبحثون عن أفكار جديدة للبرامج ذات جوانب اجتماعية وبعد إنساني يجذب أكبر قطاع من الجمهور. أضاف: للأسف هناك نوع آخر من البرامج تقوم علي الفضائح وكشف سلوكيات شاذة علي حساب القيم المهنية ومصلحة المجتمع. فيما نشط نوع يقوم علي فكرة صلة الرحم والتواصل الاجتماعي والتصالح مع الغير وهذا من أصعب أنواع البرامج لأنه يستهدف قلب وعقل المشاهد ويحتاج إلي سيناريو وحبكة ومقدم محترف. تابع: ظهرت كذلك البرامج التي تستغل تخصص طبيب في برامج جنسية ونجد اتصالات مفبركة ومصطنعة تحكي عن علاقات لها درجة من الشذوذ وهذا يعتبر استغلالاً لجوانب الإثارة لدي الجمهور ويخلق نوعاً من "الحكي" بين الناس وبعضها وهذا يعد جانباً معيباً مهنياً ويخرج عن السياق. تخدع المشاهدين تشير د.ليلي عبدالمجيد -عميد كلية الإعلام جامعة الأهرام الكندية والعميد السابق لإعلام القاهرة- إلي أن هذه البرامج هدفها استغلال المشاعر الإنسانية عند المشاهد. وإذا كانت واقعية نحن لدينا مشكلات كثيرة نسعي لحلها. لكن معالجتها بهذه الصورة خاطئة. تضيف: لابد أن نأتي بنماذج حقيقية وعرضها بعد موافقتهم وبصورة لا تكون ضد كرامة الإنسان ولا تشهر بمشكلاتهم وظروفهم الخاصة. فهناك برامج تقتحم حياة الناس وأدق خصوصياتهم وقد يكون منها المفبركة والتمثيلية وهي تخدع المشاهد وقد يصل ذلك بالمهمشين والفقراء أن يبحثوا عن الأموال بطرح معاناتهم علي شاشات الفضائيات. تصف د.ليلي عبدالمجيد ذلك ب"العجز الإعلامي" الذي يتاجر بمشاعر الناس وعواصف المشاهدين لزيادة عدد المعلنين. وهي تجارة قد تربح. ولكن علي المدي القصير فقط. طالبت ببرامج لها خطة إعلامية تستعيد الجمهور بمخاطبة عقله وليس عواطفه وتستعرض الدور الإعلامي الحقيقي بتوضيح الصورة وعرض المعلومة والتثقيف وكشف الفساد ومواجهته وحث المواطن علي العمل والإنتاج والبناء والتنمية. د.نجوي الشايب -أستاذ علم الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس- توضح من ناحيتها الرؤية الاجتماعية لتلك البرامج.. إذ تخاطب العلاقات الإنسانية والعواطف وهو شق اجتماعي بدأ المجتمع يفقده في الآونة الأخيرة. فأصبحنا نري ابتعاد الناس عن بعضها وفقدان الترابط والانتماء. فبدأ يستغل ذلك في طرح برامج من هذا النوع كصورة إيجابية. بحيث قد نسترجع من خلالها القيم الأصيلة. أما الجانب السلبي -والكلام مازال لها- فهو أنه عندما تقدم خصوصيات أفراد وعلاقات خاصة بين الأزواج أو بعض البرامج التي تطرح قضايا تمس تقاليد وثقافة مجتمع مثل حلقة "الجن" في برنامج "صبايا الخير" فهي تحمل جانباً من الفبركة الإعلامية. وتحدث زعزعة في الشخصية المصرية وتخاطبها بنوع من "السذاجة" وتدعو وتجذب بعض المحتاجين مادياً للمشاركة بقصص مصطنعة. توقيتها مناسب د.يسري عبدالمحسن -أستاذ الطب النفسي بطب القاهرة- يري أن توقيتها مناسب لأنه بالفعل غابت في المجتمع الحميمية وتباعدت المشاعر. فمثل تلك البرامج تعيد التواصل بين الناس وترفع من قيمة الحياة الاجتماعية. خاصة أننا مجتمع مصري شرقي يتصف بالمشاعر الجياشة. ولكن للأسف غلبت المادة علي حساب المعنويات والقيم الروحية. أضاف هذه البرامج تؤدي دوراً إنسانياً. إذ تعيد إلي النفوس شيئاً من الرحمة وتبث في نفوس البشر معني الإنسانية. والمشاهد ليس ساذجاً بل يستطيع أن يفرق بين ما هو مفبرك وما هو حقيقي.