وتمسكهم بالرسالة الحضارية، ولا شك أن المتابع ليتضح له جليا أن تمَسُكنا بالإرث الثقافي، بات ضعيفًا جدًا، بل بعيدًا كل البعد عن الواقع العملي والنشاط المطلوب لتحقيق نهضة ثقافية. في هذا التخبط الثقافي، تناسي الإعلام المرئي "التليفزيون" الدور المنوط به من إيصال رسائل هادفة للأفراد، والمجتمعات، بل والعالم أجمع.. فباتت السمة الغالبة علي جلّ ما يعرضه رسائل تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع، بل يبدو أنه يسعي لتغييب المشاهد عن أخطر قضاياه الثقافية، بالتغاضي عنها، وعدم تناولها بالشكل الذي يسهم في الإعلاء من الحس الأدبي، ورفع مستوي التذوق لديه.. ما أصبح قضية حقيقية تستحق الوقوف عليها.. "صوت البلد" تفتح الملف الشائك في علاقة العداء التي باتت واضحة كقرص الشمس، بين الثقافة والتليفزيون. بداية يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: ليس هناك ما يمنع من أن يقدم التليفزيون مواد ترفيهية، إلا أنه لابد من توافر عدة ضوابط تحكم ذلك، يأتي في مقدمتها المحدودية الزمنية، بمعني ألا تستغرق هذه المواد أغلب الوقت علي الشاشات، وكذا أن يكون الترفيه في حدودِ معطياتنا القومية والأخلاقية والاجتماعية، بألا تتعارض مع القيم الأخلاقية أو تعمل علي إثارة غرائز المراهقين ودغدغة عواطفهم.. كما هي الحال لأغلبها. لافتًا إلي: إننا لا ننكر وجود عدد من البرامج الثقافية، إلا أنها للأسف لا تستغرق الوقت المناسب من ناحية، كما أنها تقدم بطريقة جافة تأخذ غالبًا نمط الأسئلة المجرَّدة، كأنه لا فرقَ بين البث التليفزيوني والإرسال الإذاعي.. مشيرًا إلي أنه حتي نضمن لهذه البرامج وهذه المواد تحقيق أهدافها فلابد أن يهيمن عليها عنصر التشويق بانتقال الكاميرا عشرات المرات إلي الأماكن التي يتناولها الحديث، حتي نصل إلي درجة التنوع.. مؤكدًا ضرورة أن يكون معد البرنامج علي مستوي راقٍ من الثقافة، ومقبول الصوت. وفي السياق ذاته تساءل الأديب عبد التواب يوسف: كيف نُقبل علي الكثيرِ من هذا الهزل الذي يحدث، ومجتمع مثلنا في حاجة إلي الثقافة؟.. لافتًا إلي ما ذكره د. أحمد زويل في آخر زيارة له لمصر حينما قال: "عندما شاهدت المحطات التليفزيونية في مصر، وجدت أن كلها تغني وترقص وتتعري.. شيء سخيف جدًا". ونوه إلي أنها مسألةَ تحتاج - جديا - إلي إعادةِ نظر، كما تحتاج إلي تعاون وزارة الإعلام مع وزارة الثقافة، فالثقافةَ يمكن تقديمها في شكلٍ ترويجي جذاب يقبل عليه المشاهد خصوصًا بالنسبة للأطفال.. ويضيف: لا نقبل إطلاقًا هذه الأعمال الساذجة التي تقدم لأطفالنا تحت أي مسمي، إن من "البلاهة" أن تجلس إحدي المذيعات بجانب مجموعة من الأطفال الصغار لتتحدث في أمورٍ لا يفهمونها، ولا يطيقون هذا الحديث الممل الطويل، بينما التليفزيون لديه الحركة واللون والصورة وكل ما يجذب إليه الأطفال. وأكد ضرورة استثمار كل العوامل المتاحة لجذب المشاهد، وإعطائه جرعة من العلم والمعرفة، وتثقيف أذنه بالموسيقي، وعينيه بالصورة الجميلة واللوحة البراقة سواء كبارًا أو أطفالًا. في إشارة منه إلي أنه لا ينبغي أن نرضخ لرغباتِ محدودي الثقافة فيما يريدون مشاهدته من برامج.. قائلًا: هناك مسئولون يجب أن يضطلعوا بأمور الثقافة ليعلموا هؤلاء الناس كيف يختارون وعلينا أن نرتفع بمستوي المادة المذاعة. أين مجلس الأمناء؟ أما عضو مجمع اللغة العربية، وأستاذ علم اللغة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، د. إبراهيم عبد المجيد ضوة، فتساءل: أين دور "مجلس أمناء الإذاعة والتليفزيون"، الذي يضم عددًا من قادة الرأي والفكر والشخصيات العامة؟.. المفروض أن تعرض خريطة البرامج عليهم مصحوبة ببيانٍ عنها، فلماذا استبعدوا هذا البرنامج؟ ولماذا استخدموا ذاك؟ كما يجب عليهم مناقشة هذه الخطط في ضوء السياسة التي يضعونها باعتبارهم أهل الاختصاص؟زز لافتًا إلي أن اقتراحاتهم وملاحظاتهم لا تؤخذ بعينِ الاعتبار، ويتم تنفيذ خطة الميزانية كما هي علي اعتبار أن التليفزيون جهاز يتبع الحكومة. أما عن خفض التليفزيون لعدد البرامج الثقافية فيرجعه إلي أن التليفزيون علي عكس ما يقال عنه من أنه يقوم بوظيفة ثقافية فهو في الحقيقة يعتمد علي البرامج والمواد التي تهدف أساسًا إلي تسطيح عقل المشاهد، هذه هي الوظيفة الثقافية التي يقوم بها التليفزيون.. قائلًا: لذلك نلاحظ أن الناس ينصرفون عنه شيئًا فشيئًا، خاصةً بعد انتشار "الدش" فأصبحوا لا يتابعون البرامج لأنها مملة وتافهة وخالية من المضمون كما أنها ضعيفة في الشكل، وطريقة التقديم. وعلي صعيد موازٍ حمل د. محيي الدين عبد الحليم، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، وزارة الإعلام والمؤسسات الإعلامية المسئولية الأولي، نظرًا لأنهم مسئولون عن إعداد خريطة البرامج فأجهزة الإعلام، سواء التليفزيون أو الإذاعة، تعد أجهزة حكومية 100% حيث تمول من الحكومة، كما أنَّ موظفيها من الحكومة أيضًا، علي اختلاف الصحافة التي بها جزء غير حكومي وفيها مساحة حرية. مؤكدًا أهمية البرامج الثقافية الجادة في بناء إنسان جاد عن طريق تحصينه بالقيم وتسليحه بالمعرفة وصقله بالمعلومات.. محذرًا من خطورة غياب البرامج الثقافية والدينية الجادة قائلًا: هذا يعني وجود برامج بديلة هزلية لا تفيد بل تهدم. مفجرًا مفاجأة ثقيلة، حين أكد أن غياب البرامج الثقافة الجادة، يعد خيانة للوطن وخيانة للمجتمع وخيانة للإنسان وهدم للكيان وحط من شأنه واستهزاء به واستهتار بقيمة ومبادئه وثوابته