للأستاذ محمد حسنين هيكل احترامه.. ولآرائه وأفكاره وتحليلاته نفس الاحترام.. لكنه مثل كل فقهاء السياسة. يؤخذ منه ويرد. وقد قرأت له حواراً جري هذا الأسبوع بينه وبين عدد من مريديه من زملائنا الصحفيين المحترمين. اقترح فيه علي "المشير السيسي" إن رشح نفسه في انتخابات الرئاسة وأصبح رئيساً أن يحكم من خلال ما سماه الأستاذ "مجلس أمناء الدولة والدستور". كممثل لجبهة وطنية عريضة تضم كل أطياف المجتمع. وتساند "السيسي" الذي يُقبل في رأي الأستاذ علي مهمة لم يتم إعداده لها. وليس له حزب سياسي يستند إليه. وفكرة "مجلس أمناء الدولة والدستور". سبق للأستاذ هيكل أن طرحها في نظام الرئيس الأسبق "مبارك". مع بداية ظهور إرهاصات ثورة 25 يناير 2011. وتحديداً بالتزامن مع إعلان الدكتور "محمد البرادعي" عن عودته إلي مصر عقب انتهاء عمله في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ديسمبر 2009. للمساهمة في قيادة الحراك السياسي الدائر وقتها طلباً للتغيير. وقد طرح الأستاذ هيكل هذه الفكرة وقتها "كصيغة حكم" لمرحلة انتقال سلمي للسلطة من نظام مبارك إلي نظام جديد. وتحت إشراف مبارك والقوات المسلحة. لكن الفكرة لم تلق وقتها تجاوباً. وإن التقطها "البرادعي" بعد 25 يناير 2011. وطورها بالدعوة إلي تشكيل "مجلس رئاسي" من عسكريين ومدنيين يدير شئون البلاد خلال مرحلة انتقالية تبدأ بوضع دستور جديد. ولقيت فكرة مجلس البرادعي نفس مصير فكرة الأستاذ هيكل. الواضح إذن أن فكرة الحكم من خلال مجلس أمناء الدولة والدستور. كانت نبت ظروف محددة.. مجتمع يموج بالحراك السياسي. ويطالب بالتغيير. ويريد دستوراً جديداً. وحكماً مختلفاً. وان هذه الفكرة طرحت باعتبارها صيغة تضمن انتقالاً سلمياً وآمناً للسلطة. اليوم والظروف مختلفة تماماً.. ولا يغيب عن فكر الأستاذ هيكل أنه لا توجد صيغة حكم مقدسة تصلح لكل الظروف والأزمان. نحن الآن في مرحلة انتقالية بالفعل.. ولدينا خارطة للمستقبل تحدد الاستحقاقات التي ينقلنا تنفيذها إلي نظام سياسي مستقر.. وقد أنجزنا الاستحقاق الأول في هذه الخارطة بإقرار الدستور بأغلبية كبيرة. وحين ننجز الاستحقاق الثاني. وهو انتخاب رئيس للجمهورية. فإن الرئيس الذي يختاره الشعب. أياً كان من هو. لن يكون حراً في تحديد شكل أو صيغة الحكم الذي يعمل به. وإنما عليه فقط أن يحكم بالدستور. ومن خلال المؤسسات المنصوص عليها في مواده. وليس بغيرها. والدستور لا ينص علي "مجلس الأمناء" الذي يقترحه الأستاذ هيكل. ولا يستطيع الرئيس القادم. ولا يملك أن يبدأ حكمه بمخالفة الدستور. بأن يخترع لنفسه أو يقحم علي إرادة الشعب التي أقرت الدستور مثل هذا المجلس. أما قول الأستاذ هيكل ان "السيسي" مقبل علي مهمة لم يتم إعداده لها. وهي رئاسة الدولة. لأنه عسكري صرف لم يمارس السياسة. بعكس عبدالناصر الذي كان في رأي الأستاذ مولوداً سياسياً أكثر من كونه ضابطاً أو عسكرياً.. فرأيي أن هذا القول يحتاج إلي مناقشة واسعة في هذا الظرف بالذات. واختصاراً. فإن الفكرة الشائعة عن العسكريين بأنه "ليس لهم في السياسة" بحجة أنهم لم يمارسوها. فكرة خاطئة مائة بالمائة.. خاصة بالنسبة للقادة منهم علي وجه التحديد. إن العقيدة القتالية لأي جيش. عقيدة سياسية في المقام الأول. وكذلك التلقين الذي يتلقاه أفراده. وكما نقول عن السياسة الخارجية لأي دولة. إنها انعكاس لأهداف وأوضاع داخلية. فكذلك السياسة العسكرية. أو الدفاعية. مهمة أي قائد عسكري. تفرض عليه الإلمام بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالوطن الذي يحمل مسئولية الدفاع عنه. وحماية شعبه. سواء في أوضاعه الداخلية. ابتداء من رغيف الخبز. إلي علاقات القوي السياسية والاجتماعية. وصولاً إلي علاقاته الإقليمية والعالمية. لأنها جميعاً تصب في النهاية في مهمته. وتنعكس إيجاباً أو سلباً علي دوره. أساس تكوين أي قيادة عسكرية. أن يعرف وطنه. ويدرك قيمته. ويعرف حدوده الجغرافية. وأهدافه السياسية والأمنية التي قد تتجاوز هذه الحدود الجغرافية. ويدرك المخاطر والتهديدات والتحديات الداخلية والخارجية التي يتعرض لها. ولا يستطيع أن يصوغ استراتيجية عسكرية لبلاده. دون أن تكون تفاصيل كل ذلك. بالأرقام والخطط والبرامج والتوقيتات ماثلة أمامه. الأصح إذن. أن نقول عن العسكريين إنهم في قلب السياسة. فهماً ووعياً وإدراكاً. لكنهم لم يمارسوها بالطرق والوسائل التي يمارسها بها الحزبيون. ثم.. مَن الذي أعد المستشار الجليل عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا ليكون رئيساً انتقالياً لمصر في أصعب وأدق مراحل تاريخها المعاصر؟!! ومع ذلك. فالرجل نجح في قيادة البلاد. وأداؤه السياسي يتطور من يوم إلي يوم. رغم أنه كان قاضياً ممنوعاً مثل العسكريين من ممارسة السياسة أو الانخراط فيها!! الأستاذ هيكل نفسه يعترف في الحوار ذاته بهذه الحقيقة. ويبدي رغبته في أن يستمر الرئيس عدلي منصور في المشهد السياسي في المرحلة القادمة. تبقي نقطة أخيرة. يبرر بها الأستاذ هيكل اقتراحه بأن يحكم "السيسي" من خلال "مجلس أمناء الدولة والدستور" وهي أن السيسي بلا حزب سياسي يسانده. ولا يعتقد الأستاذ أنه سينشئ حزباً. وبالتالي يتعين أن تكون هناك إلي جواره جبهة وطنية عريضة يمثلها هذا المجلس. والحق أنه لا توجد جبهة وطنية أعرض من تلك الملايين التي نزلت في 30 يونيه و3 يوليو وفي الاستفتاء علي الدستور في 14 و15 يناير الماضي.. والمفترض أن هذه الملايين هي التي ستنتخب رئيس الجمهورية الذي تريده. وأن التمثيل الطبيعي لها يكون في مجلس النواب "البرلمان" باعتباره المؤسسة الدستورية المنوط بها التشريع والرقابة علي أعمال الرئيس والحكومة. نحن مقبلون علي أوضاع جديدة. وعلينا أن نفكر لها بطريقة مختلفة. أسبوع "صباحي" و"نافعة" اثنان تصدرا المشهد السياسي والإعلامي هذا الأسبوع. وكانا و مازالا موضع جدل شديد. هما حمدين صباحي. مؤسس التيار الشعبي. بإعلانه الترشح لانتخابات الرئاسة.. ود.حسن نافعة. أستاذ العلوم السياسية. بمبادرته التي طرحها للمصالحة الوطنية. والحق أنني أشفقت علي الاثنين. وهما زميلان عزيزان. من هذا الهجوم الضاري وغير المبرر الذي تعرضا له لمجرد أن كلاً منهما مارس حقاً من حقوقه المشروعة كمواطن وسياسي بارز علي الساحة. مهما اختلفنا مع أي منهما. حمدين صباحي أعلن رسمياً اعتزامه ترشيح نفسه للرئاسة.. هل ارتكب جريمة؟!! لقد كتبت في هذا المكان يوم الخميس قبل الماضي. تحت عنوان "معضلة الرئاسية".. أطالب كل من لديه فرصة في الانتخابات الرئاسية أن يرشح نفسه. وقلت إننا لا نريدها استفتاء علي مرشح واحد. ولا معركة عسكرية. بل نريدها انتخابات سياسية تعددية. وقلت أيضاً إنه خير "للسيسي" ولمستقبل الديمقراطية في مصر أن يكون مرشحاً قوياً بين منافسين أقوياء. من أن يكون قوياً بين مرشحين ضعفاء. فينسب فوزه إلي ضعف الخصوم لا إلي قوته. وخوض "صباحي" الانتخابات لابد أن يكون موضع تقدير من الجميع. وأولهم أنصار المرشح الافتراضي المنتظر وهو المشير السيسي. لأنه يعطي للانتخابات طعم المنافسة الحقيقية. ويضع الناخب بين خيارين مختلفين.. شخصية عسكرية بارزة ولها دور مشهود في الثورة.. وشخصية سياسية مدنية بارزة ولها دورها المشهود في الثورة أيضاً. وفي ظني. أنه. ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة في الترشح لانتخابات الرئاسة. فإنه في ضوء الأسماء التي يتردد اعتزامها الترشح ستكون المنافسة الحقيقية بين السيسي وصباحي.. وستكسب مصر. وتكسب الديمقراطية. ويكسب الاثنان أياً كانت النتيجة. أما الدكتور حسن نافعة. فطرح مبادرة المصالحة الوطنية.. هل ارتكب جريمة؟!! إن أي نظرة بعيدة المدي لمستقبل مصر تقول إن استمرار حربنا ضد رءوس الإرهاب وتنظيماته لا يمنع من بذل جهد سياسي وإعلامي وثقافي وتعليمي وديني من أجل استقطاب كل من لم تتلوث يداه بدماء المصريين أو يرتكب جريمة مما يعاقب عليه القانون ضد منشآتهم وأموالهم. أو يتعامل بأي صورة من الصور مع عدوهم. وصولاً إلي إدماج هؤلاء في الحياة السياسية من جديد. وعندما أعلنت الدولة جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية. كتبت في هذا المكان أن هذه خطوة سياسية تفتح الباب أمام قواعد الجماعة وشبابها المضللين للانفصال عنها. والانخراط في الحياة السياسية للمشاركة في بناء مستقبل مصر. وربما يكون لي شخصياً تحفظات علي "توقيت" إعلان المبادرة.. وعلي طرحها في الإعلام قبل التأكد من نضج الظروف لاستيعابها.. وكلاهما في رأيي هما سبب هذا الهجوم الضاري علي المبادرة وصاحبها. أما المبادرة نفسها فهي اجتهاد شخصي لصاحبها ولابد أن نفترض حسن النوايا وسلامة القصد لديه في إطار حوار عقلاني ننظر فيه جميعاً إلي أبعد من اللحظة الراهنة. الحرب علي الإرهاب لابد لها من نهاية.. والمصالحة الوطنية آتية لا ريب فيها.. ومجال المبادرات مفتوح ولا تثريب علي ذلك.. المهم: متي.. وكيف.. ومع من؟!!.. وهذا كله له حديث آخر.