تعاني جماعة الإخوان المسلمين في هذه الحقبة مأزقًا وجوديًا، بعد انسداد الأفق السياسيّ والاجتماعيّ أمامها، واتساع مساحات السخط والرفض الشعبيّ لممارساتها العنيفة من اغتيال وقتل وتفجير وإثارة للإرهاب والفزع.. وبدلاً من أن تتبني الجماعة خطابًا عقلانيًا، ومسلكًا وطنيًا لعبور أزمتها الوجودية، تبنت خطابًا استعلائيًا إطلاقيًا متصلبًا، لا يعرف إلي المرونة والتوسط سبيلا.. فهي تنطح الصخر، وتظن أن بإمكانها خطف الدولة المصرية بكل زخمها وعنفوانها وامتدادها الحضاري والتاريخي، وحكمها ولو عنوة بالقوة والإرهاب. ولكن هيهات!! لقد انكشف للجميع، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، مدي زيف ادعاءات الجماعة الإرهابية.. وتبدد علي محك الممارسة السياسية العملية وهْم المظلومية التاريخية التي حاولت أن تكتسب من خلالها تعاطف شرائح عريضة من المجتمع.. بل، علي العكس من ذلك، بدا واضحًا، وضوح شمس يوليو، أن الجماعة لا تحيا مظلومية تاريخية كما تدّعي، بل تحيا 'ظالمية' تاريخية، و'عدوانية' تاريخية، و'إرهابية' تاريخية، ونهمًا تاريخيًا للسلطة.. ورغبة مدمرة في الاستحواذ عليها، لتوجيهها لخدمة أغراضها ومشاريعها الخاصة، حتي لو كان ذلك علي حساب الوطن ومصالحه العليا، التي لم يعيروها اهتمامًا واستهانوا بها استهانة غير مسبوقة!! وكلّما اقتربت الجماعة من مرحلة الغرق واللاعودة، رأينا بعض أطواق النجاة تُلقي من هنا وهناك، متمثلة في بعض المبادرات التي تسعي إلي التوسط بين الدولة والإخوان المسلمين 'وكأنهما ندان متكافئان!!' لرأب الصدع، ولمّ الشمل، وحفظ الدماء المصرية الزكية.. وتحقيق السلام الاجتماعي المنشود.. ولا ضير، في تقديري، من الصلح والسلم من حيث المبدأ، فالله تعالي يقول في كتابه العزيز: 'والصلح خير'.. كما لا نشكك في صدق نيات من يطرحون تلك المبادرات، ولا في صدق توجهاتهم الوطنية والسياسية، فأمر ذلك موكول إلي الله عالم الغيب.. ولكن ذلك لا يمنعنا، في الوقت نفسه، من الاشتباك مع مضامين ما تطرحه تلك المبادرات من أفكار ومقترحات، ومناقشتها، وتفنيد ما يستحق التفنيد منها، والبناء علي الصالح من مبادئها وتثمينه.. واستجلاء مواقف جماعة الإخوان المسلمين، وردود فعلها إزاء تلك المبادرات وطارحيها. ونريد أن نتوقف، هنا، أمام المبادرتين الأخيرتين اللتين طرحهما الدكتور جمال سلطان رئيس تحرير جريدة 'المصريون' والدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة. فأما مبادرة الدكتور جمال سلطان فقد نسبها إلي ما يعرف بتحالف دعم الشرعية، مؤكدًا أنها حصيلة نقاشات جادة ومستفيضة بين أعضاء التحالف، لإنهاء الأزمة المستحكمة التي تمسك بخناق جماعة الإخوان المسلمين. وقد كان من أبرز ما جاء في مبادرة الدكتور جمال سلطان، والتي نشرتها جريدة 'المصريون' في الثالث من فبراير 2014، ما يلي: تنحي الدكتور مرسي وتفويض صلاحياته للمجلس العسكري 'كما فعل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك' والإفراج الفوري عن الدكتور مرسي، وتسوية جميع القضايا المتهم بها، وعدم ترشيح الأحزاب الإسلامية مرشحًا لمنصب الرئاسة لمدة دورتين رئاسيتين قادمتين، وإعادة القنوات الفضائية الدينية، ووقف الملاحقات الأمنية بجميع صورها والإفراج عن كافة الموقوفين، وتعهد جميع الأطراف بالإدانة الكاملة والصارمة لكل صور الإرهاب المهدد للدولة ومؤسساتها وقياداتها وأجهزتها، والتعاون مع الدولة بكامل الطاقة علي حصاره وتجفيف منابعه علي مستوي الفكر والسلوك السياسيّ.. ويُعدّ هذا البند من أهم بنود المبادرة.. وأخيرًا اقترحت المبادرة وقف حملات الكراهية في الخطاب السياسيّ والإعلامي ودعم توجهات المصالحة الوطنية والتعددية في الإعلام. ورغم ما تتسم به بعض بنود المبادرة من التوازن والمعقولية، خاصة وقف الإرهاب بكافة صوره فكرًا وسلوكًا.. ووقف حملات الكراهية في الخطاب السياسيّ والإعلامي عبر ميثاق شرف إعلامي.. ورغم التحفظ علي عبارة 'جميع الأطراف' لأنها تساوي بين الدولة والخارجين عليها وحاملي السلاح في وجهها، وسلوكها إزاء ذلك هو رد الفعل القانوني الرادع والكابح.. أقول: رغم ذلك كله قابل الإخوان هذه المبادرة بكل تصلب وصلف وعجرفة، وتنكروا لها.. فقد وصفها الدكتور جمال حشمت، القيادي بالإخوان وتحالف دعم الشرعية، بالمبادرة المشبوهة في أصلها وتوقيتها وإلغائها للشرعية، والمخابراتية، والوهمية، كما وصفها عمرو عبد الهادي عضو جبهة الضمير وتحالف دعم الشرعية بالمبادرة الفضيحة، ووصف مقدمها بأنه أحد قادة الانقلاب!! وأما مبادرة الدكتور حسن نافعة، للمصالحة مع الإخوان المسلمين، فإنها تستحضر إلي الأذهان الدور الذي لعبه التيار الليبرالي في دعم الإخوان المسلمين سواء قبل ثورة 25 يناير أو بعدها.. قبل وصولهم إلي السلطة وبعد انتزاعها منهم: ألم يشملهم حزب الوفد بعباءته ووضعهم علي قوائمه الانتخابية في عام 1984؟ وهل يخفي دور الدكتور محمد البرادعي في إيصال الإخوان إلي السلطة، وإن تنكروا له بعد الوصول إليها؟ ومازالت استقالته المريبة من منصب نائب رئيس الجمهورية عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة تضع حوله علامة استفهام كبري.. فهل جاء الدكتور حسن نافعة ليكمل هذا الدور بمبادرته التي ولدت ميتة، ربما باعترافه هو نفسه، فهو يري ويلمس ويشير في ثناياها إلي تأكيد الجماعة عدم قبولها بأقل من عودة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي، وعودة الدستور المجمّد، ومجلس الشوري المنحلّ!! ومع ذلك يقترح الدكتور نافعة إرسال رسائل تطمين للإخوان بأنهم لن يُقصوا من الساحة السياسية، ويقترح، أيضًا، أن تأتي الخطوة الأولي من الدولة، وكأن الدكتور حسن نافعة لا يري أو يعاني، مثل الجميع، تعنت الجماعة وعدم قبولها بأي حلول أو مبادرات منذ اعتصامي رابعة والنهضة وإلي وقتنا الراهن هذا!! ومن أهم ما جاء في مبادرة الدكتور حسن نافعة للإنقاذ والخروج بالوطن من الأزمة: تخلي كافة الأطراف عن استخدام التهديد باستخدام العنف بكافة أشكاله تحت أي ظرف من الظروف. ونبذ الإرهاب والتنديد به، وفك الارتباط مع كل من يلجأ إليه، وتجريم كل فعل وقول يكفر أو يخوّن الآخر، أو يحرّض علي الكراهية وبث الفتنة الطائفية.. ولا بأس في ذلك. علي أن البند الأخطر في مبادرة الدكتور حسن نافعة للإنقاذ هو الذي يورده علي النحو التالي: 'فمازال هذا الطرف، في تقديري 'يقصد الإخوان المسلمين' قادرًا علي خوض حرب استنزاف طويلة الأمد، قد تنجح في إفشال خارطة الطريق، وذلك بالاعتماد ليس فقط علي قواه الذاتية في الداخل والخارج، والتي ماتزال كبيرة رغم حملات القمع والاعتقالات'!!' ولكن أيضًا باستغلال نقاط ضعف وأخطاء السلطة الحالية'. وخطورة هذا البند، في تقديري، تنبع من أن الدكتور حسن نافعة يمنح جرعة من القوة للجماعة الإرهابية ويحاول بثّ الرعب في قلوب أعدائها، عبر التضخيم من إمكاناتها الذاتية في الداخل والخارج، وطول نفسها في حرب الاستنزاف التي ستظل تخوضها ضد الدولة، فهذا البند بهذه الصياغة كأنه رسالة تهديد مبطن للدولة ومؤسساتها وقواها!! فمن أيّ شيء يخوفنا الدكتور حسن نافعة؟! هل المطلوب من الدولة بأجهزتها ومؤسساتها وشعبها أن تخضع لابتزاز الجماعة الإرهابية وتجلس علي برميل من البارود لا تدري متي ينفجر في وجهها مرة أخري؟! هل المطلوب هو تعطيل القانون ريثما تنهي الجماعة مهمتها وتهدم المعبد علي رؤوس الجميع وهذا منتهي ما تطلبه؟! وأين هي قوة الجماعة التي يتحسب لها الدكتور حسن نافعة ويريدنا أن نتحسّب لها معه؟ هل هي العمليات الإرهابية الخسيسة التي تنفذها هي وحلفاؤها هنا أو هناك من وقت لآخر؟! وهل تستطيع الجماعة فعلاً عرقلة خارطة الطريق وإفشالها؟ ألم يلاحظ الدكتور حسن نافعة أن الواقع يقول عكس ما يذهب إليه تمامًا، حين خرج الشعب للاستفتاء علي الدستور، غير عابئ بالتفجيرات الإرهابية، وأنجز، بنجاح باهر، الاستحقاق الأول من استحقاقات خارطة المستقبل، بنسبة تجاوزت %98، ولم يتبق سوي أن تعبر مصر عتبات المستقبل لاستكمال بقية الاستحقاقات من انتخابات رئاسية وبرلمانية؟! فهل تصبح مبادرة الدكتور حسن نافعة حصان طروادة الذي يحاول أن يعيد من خلاله الإخوان المسلمين إلي المشهد السياسي مرة أخري، بعد أن انعدمت فرص عودتهم أو كادت بسبب أفعالهم الإجرامية التي لا يريدون لها أن تتوقف؟! ليس هناك من أحد يرفض الصلح لذاته، كما سبق القول، ولكنه هنا ليس الصلح بين ندّين متكافئين، فثمة دولة عريقة هي مصر وثمة جماعة منها انحرفت عن جادة الصواب بانتهاجها العنف والإرهاب طريقًا وحيدًا لتحقيق أهدافها.. وأعرضت عن طريق الحوار والنضال السياسيّ السلميّ، وإذا أرادت الاندماج في المجتمع المصريّ فعليها العودة إلي حظيرة القانون، والتخلي عن انتقائيتها، والاعتراف، من ثَمَّ، بثورة الثلاثين من يونية، كما اعترفت بثورة الخامس والعشرين من يناير، وعليها، كذلك، نبذ العنف، إلي الأبد، فكرًا وسلوكًا، والاعتراف بجرائمها في حق الشعب المصريّ والاعتذار الصادق له، وليأخذ بعد ذلك القانون مجراه الطبيعي في حساب كل من تلوثت يداه بدماء المصريين، وأن تكف عن خلط الدين بالسياسة.. هذا أو الانقراض!!