** كانت أم كلثوم أحد صناع الأمل في تاريخ الأمة المصرية. وإذا كانت الكلمة المعبرة عن ضمير الأمة أقوي من الرصاص. فإن صوت أم كلثوم أقوي من الصواريخ عابرة القارات. فقد اختزلت في صوتها معاني الوطنية والشموخ والكبرياء والمجد معاً. وعندما تحل ذكراها ينتابني شعوراً أشبه باليأس. بل هو اليأس ذاته في استعادة عصر أم كلثوم. فقد استطاعت هذه السيدة العظيمة أن تفسح للفرحة والبهجة مكاناً متميزاً في الوجدان العربي بقصائد وأغنيات قلما يجود الزمان بمثلها. ودعونا نضع - الثروة الكلثومية - المتمثلة في أكثر من سبعمائة أغنية وقصيدة جانباً. ونتوقف فقط أمام ثلاثة نماذج تجسد كافة المشاعر الإنسانية. إيمانية كانت أو وطنية وجميعها تجسد معني الحب بمفهومه الواسع. ولعلها دعوة متجددة لعشاق مصر من شباب ثورة يناير المجيدة أن يغذي وجدانه بثلاثية مختارة تنطلق من منصة أم كلثوم الغنائية. إنها ثلاثية العشق والوطن والإيمان أمس واليوم وغداً. ** فعندما اختارت أم كلثوم أبياتاً من حديث الروح للشاعر الباكستاني العظيم محمد اقبال أشعرتنا بحلاوة الإيمان. وأهمية التمسك بالعقيدة. فإذا بالخشوع والعذوبة يجتمعان معاً في صوتها: إذا الإيمان ضاع فلا أمان.. ولا دنيا لمن لا يحيي دينا ومن رضي الحياة بغير دين.. فقد جعل الفناء لها قرينا وفي التوحيد للهمم اتحاد.. ولن تبنوا العلا متفرقينا ** وعندما أرادت أن تتحدث باسم الشعب اختارت انشودة شاعرنا كامل الشناوي "أنا الشعب" وبأدائها المعجز أشعرتنا أن أروع ما في حياة مصر. ذلك العطاء المتدفق للشعب علي امتداد عصور التاريخ منذ "اخناتون" أول داعية للتوحيد في العالم. وحتي عصر عبدالناصر. فكم ألهبت حماسنا. وكم أعلت من قيمة الشعب المصري: أنا الشعب أنا الشعب.. لا أعرف المستحيلا ولا أرتضي بالخلود بديلاً.. بلادي بلادي مفتوحة كالسماء تضم الصديق وتمحو الدخيلا ** وكم غنت أم كلثوم للعشق والعشاق. فإذا بصوتها يغزو القلوب بلا استئذان. ويحول ذلك الحزن النبيل في النفس إلي اهتزازة طرب تنعش الوجدان وتخفف من وقع الأحزان. هكذا أشعرتنا عندما شدت بأبيات من قصيدة شاعرنا إبراهيم ناجي "الأطلال": يا حبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء ربما تجمعنا أقدارنا.. ذات يوم بعدما عز اللقاء ** آخر الكلام: وواقع الحال أني ما أردت التذكير بأم كلثوم. فقد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه. باعتبارها فلاحة مصرية معطاءة حباها الله بصوت عبقري. وإلي يوم الثلاثين من ديسمبر علي الأرجح من عام 1898. وقبل أن يسدل القرن التاسع عشر ستائره شهدت قرية طماي الزهايرة مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية مولد فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي الشهيرة ب "أم كلثوم" قبل أن ترحل عنا يوم الثالث من فبراير عام 1975 بعد حياة ثرية امتدت "77" عاماً عاصرت خلالها العديد من الملوك والرؤساء وجمعت حولها عباقرة اللحن والنغم وكبار الشعراء والكتاب والأدباء ونجوم المجتمع. ومنذ أن وطأت قدماها العاصمة عام 1922 قادمة من طماي الزهايرة حتي أزاحت منيرة المهدية التي كان يطلق عليها "سلطانة الطرب" وقتذاك وتربعت علي عرش الغناء العربي بامتداد نصف قرن. وفي عام 1972 منحها الرئيس السادات لقب "فنانة الشعب" وقد كانت بالفعل فنانة الشعب. ويحسب لها عظيم دورها في أعقاب هزيمة عام 1967 المعروفة إعلامياً باسم نكسة يونيو. فقد جابت أم كلثوم معظم البلدان العربية وأشهر العواصم الأوروبية لجمع المال من أجل إعادة بناء الجيش حتي شهدت انتصاره في حرب الكرامة عام 1973. وضربت المثل والقدوة في العطاء للوطن بلا حدود. ولعلها تكون مثالاً يحتذي لأباطرة الفن الذين يتشدقون بعشق الوطن عبر الفضائيات فقط لاغير. وفي ذكراها يتردد صوتها مجدداً يحث نجوم الغناء أمثال الكنج. والهضبة. وتمورة. وشرين. وأنغام وغيرهم علي رد الجميل لمصر المحروسة. فالوطن في حاجة إلي مساهماتهم للنهوض باقتصادياته في مهب الريح بدلاً من الاستعانة بالآخر علي سبيل السلف أو التلف.. لا فرق!