المقصود بالاعتبار للكيان الإنساني الإعتراف بوجود الإنسان وجوداً قانونياً. وهو ما يعبر عنه في اصطلاح الفقهاء بالذمة والأهلية. فنقول: فلان له ذمة أو له أهلية. اي له كيان قانوني بحيث يصير أهلاً لتملك المال والحقوق. وأهلاً لتمليكها إما بنفسه أو عن طريق واسطة كوكيل أو ولي أو وصي. والكينونة في اللغة تطلق علي الوجود. تقول: كان الشيء كوناً وكياناً. وكينونة. اي: وجد وثبت. فهو كائن. وتقول: كون الله الكون. اي أخرجه من العدم إلي الوجود. وتكون الشيء اي حدث. والكون هو الوجود. ويكون الإنسان كينونة قانونية. أو أهلية أو ذمة بمجرد ولادته حياً. لحصول صورته في الدنيا بعد ان لم تكن حاصلة. وهذه الكينونة يتساوي فيها كل البشر بمجرد ولادتهم أحياء» لما أخرجه أبوداود من حديث أبي هريرة. ان النبي - صلي الله الله عليه وسلم - قال: "إذا استهل المولود ورث". والاستهلال: يعني الصراخ ساعة الولادة» لأنه علامة حياة المولود عادة. ويترتب علي حق المساواة بين الناس في الاعتراف لكل واحد منهم بوجوده القانوني - أو بذمته الإنسانية أو أهليته الشخصية - ستة حقوق. ثلاثة منها تقابل ثلاثة: "1" الحق الأول هو براءة الذمة في حكم الأصل لجميع البشر. علي معني أنهم يولدون بدون ديون. فليس عليهم عند الولادة اي حق او اي تكليف يتعلق بذمتهم. بل وهذا الحق: يقابله حق آخر معاكس. تستلزمه طبيعة الحياة. وتحتمه معاملات الناس ومبادلاتهم التي تستوجب ان تتحمل ذمتهم عن بعض. وهو ما نطلق عليه حق إشغال الذمة بمسوغة. اي يثبت لكل إنسان حق في ذمة الآخر. وفقاً لقواعد وأصول المعاملات بين الناس. فعقد البيع مثلاً إذا وقع صحيحاً بأركانه وشروطه أنشغلت ذمة البائع بتسليم السلعة المبيعة. وانشغلت ذمة المشتري بتسليم الثمن. أما إذا وقع عقد البيع باطلاً فإن ذمة المتابعين تنشغل بالتراد. اي يرد كل منهما ما في يده لصاحبه إن كان قد أخذه بهذا العقد الباطل. "2" وأما الحق الثاني فهو حق أمانة الذمة - في حكم الأصل - لجميع البشر. علي معني أنهم يصدقون فيما يخبرون عن انفسهم وتصرفاتهم» لأنهم يولدون بذمة بريئة. فكان من مقتضي تلك البراءة استمرارها» وفقاً لقاعدة أو دليل الاستصحاب عند علماء الأصول. ويقابل هذا الحق - وهو أمانة الذمة - حق آخر معاكس تستلزمه طبيعة النفس البشرية التي جلبت علي الطمع. ويحتمه تعارض المصالح بين الناس. وحاجة كل إنسان إلي ما في يد غيره. فنشأ حق إنساني آخر. وهو حق اتهام الغير المشكوك في براءة ذمته» لقرائن وأمارات تؤيد هذا الاتهام. فمن حق كل إنسان توجيه الاتهام للغير الذي يظن فيه الكذب والمحاباة. مثل شهادة الوالد لولده. والخادم لمخدومه. ويهدف هذا الحق الي التجرد والتوثيق في الحقوق. "3" وأما الحق الثالث فهو حق ثبوت الملك في الذمة لجميع البشر. علي معني ان كل إنسان امتلك شيئاً بسبب من أسباب الملك. كالبيع والهبة والوصية والإرث. فإن الملك يثبت له في ذمته. ولايشترط في ثبوت الملك الحيازة الفعلية للشيء. وإلا لوجب علي كل إنسان ان لا يتحرك إلا بممتلكاته. وهذا محال» لذلك كان حق الملك من الحقوق التي تثبت في الذمة. ويقابل هذا الحق - وهو ثبوت الملك في الذمة - حق آخر معاكس تستلزمه قواعد التقاضي وفض الخصومات بين الناس. وهو حق الاستحقاق. والمقصود بالاستحقاق: اسقاط الملكپمن ذمة إنسان وإثباته لذمة إنسان آخر لثبوت أحقيته به. ومن أمثلته: انتزاع القاضي العين المغصوبة من يد الغاصب الي يد صاحبها الحقيقي. ومن أمثلته أيضاً: انتزاع القاضي جزءا من مال الزوج. لصالح طليقته. لاستحقاقها النفقة. وبهذا تظهر محاسن الشريعة الإسلامية التي تسوي بين الناس في حق الاعتراف بالوجود القانوني للإنسان. وما يتفرع عنه من حقوق: براءة الذمة. وأمانتها. وثبوت الملك لها. كما يتساوي الناس في طروء العكس لتلك الحقوق باعتبار قابلية الذمة للتغيير. فيجري عليهم حقوق: اتهام الذمة. ورد أمانتها. واستحقاق ما ثبت لها في مواجهة الغير إن كان لذلك وجه من دليل أو قرينة أو امارة.