* ربما يتساءل البعض هل جاء تشكيل لجنة الخمسين المنوط بها تعديل الدستور أو كتابة دستور جديد متوازنا يعكس التوجهات الفكرية والاجتماعية والسياسية للمجتمع ويمثل جميع أطيافه من عمال وفلاحين وطبقة وسطي ونخبة ومجتمع مدني ومناطق جغرافية وديموجرافية؟! في رأيي أن التشكيل جاء متوازناً يمكنه أن يحقق - رغم تحفظات البعض عليه - التوافق المنشود ولو في أدني درجاته ..لكن الأهم هو المنتج الدستوري الذي سوف تقدمه هذه اللجنة والذي سوف يعكس مقدار ما يتحلي به أعضاؤها من رؤية ودراية وثقافة كل حسب مجاله وتخصصه واحتياجات من يمثله !! ولو كان لي أن أقترح شيئاً علي من سوف يتولون كتابة أهم وثيقة تاريخية في حياتنا تؤسس لدولة القانون والعدالة وتعيد رسم خارطة المستقبل وصياغة اهم ملامحها فإني أدعوها إلي تبني دستور يحقق التوازن بين الأصالة والمعاصرة ويحفظ لمصر طابعها الحضاري الأصيل ألا تغفل الأسباب التي فجرت ثورة 30 يونيو التي كان دستور الإخوان أحد أهم أسبابها!! ينبغي للدستور الجديد أن يجيب عن أسئلة مهمة ومفصلية مثل ما طبيعة النظام السياسي الذي يناسب ظروفنا ..هل هو النظام البرلماني أم الرئاسي أم المختلط وان كنت أميل للأخير لتقليل عوامل إفساد الحاكم وتجفيف منابع استبداده وتسلطه ومنع العودة لحكم الفرد الطاغية الذي يشطب علي إرادة الجماعة ويلغي عقلها ويتسبب في تخلفها وهزيمتها!! ينبغي للدستور الجديد ألا يعطي للرئيس الحق في تعيين رؤساء الأجهزة الرقابية » كالمركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية وأن يعهد بذلك للبرلمان مثلاً »حتي نتفادي أخطاء الماضي حين كان الرئيس يتحكم في عمل تلك الأجهزة يحركها وقتما يشاء .ويعطلها وقتما يريد .ويطلقها علي من يشاء كأداة لمعاقبة الخصوم والتستر علي الأتباع وقد يكتوي بنارها أيضاً كما حدث مع مبارك ومرسي وقد أفضي ذلك إلي زيادة مساحة العتمة والتضليل وانعدام الشفافية واستشراء أمراض الفساد في حياتنا حتي قادتنا إلي الثورة!! * ننتظر من دستورنا الجديد أن يحسم الطريقة التي تجري بها الانتخابات البرلمانية .وأن يتفادي سوءات وأخطاء العامين المنقضيين من المرحلة الانتقالية والتي ترتب عليها عدم دستورية بعض مواد قانون الانتخاب ومن ثم بطلان تشكيل مجلس الشعب الأخير وحله !! وحسنا فعلت لجنة العشرة حين اختارت النظام الفردي لأنه الأنسب لظروفنا الراهنة بخلاف ما تريده الأحزاب التي تفضل نظام القائمة حتي تضمن فوز قادتها وكوادرها بوضعهم علي رأس تلك القائمة نظراً لفقدانها الشعبية المطلوبة ولا مجال للقول هنا إن النظام الفردي يحرم الأقباط والمرأة والشباب من التمثيل البرلماني الذي يتحكم فيه المال والعصبية والقبلية بالدرجة الأولي وتلك ثقافة متجذرة في الوجدان الشعبي يحتاج تغييرها إلي جهد تثقيفي وتنويري وتوعية ميدانية جادة ومتواصلة وليس إلي قانون انتخابي قد يفيد في ناحية .ويضر في نواحي أخري كثيرة !! * أتمني علي أحزابنا الكثيرة كغثاء السيل أن تعيد تنظيم نفسها وصياغة علاقتها بالشعب من ناحية وببعضها البعض من ناحية أخري بأن تندمج في كيانات كبري حزبين أو ثلاثة كما قي الدول العريقة ديمقراطياً لعلاج حالة التشظي السياسي والقزمية وانعدام المصداقية والحيوية و التأثير لكثير منها وفقدان التأييد اللازم للمنافسة والبقاء في الشارع وأن تقدم برامج حقيقية جاذبة وأفكاراً واقعية تقدمية تضمن لها الفوز في الانتخابات وأن تمارس الديمقراطية بين أروقتها أولاً وأن تتداول السلطة بين كوادرها قبل أن تطالب غيرها بذلك وأن تدخر دائماً حكومة ظل جاهزة لتولي مقاليد الأمور في أي لحظة إذا ما ساقتها الأقدار لذلك!! نريد أحزاباً تتنافس علي الأفكار والبرامج والحلول لمشاكل مستعصية ما أكثرها لا أن تغرق في جدل ايديولوجي يضر بالدين ولا ينفع السياسة أحزاباً تتباري لتبني أحلام المصريين في حياة كريمة بلا أمية ولا مرض ولا فقر وتعيد ترتيب الأولويات وتبني مشروعات قومية تحشد الشعب خلفها للانتقال لاقتصاد منتج وتعليم مثمر وبحث علمي مبدع وتقدم في شتي المجالات. نرجو للجنة الخمسين - وهي حتماً تدرك ذلك - أن تستفيد من تجارب التاريخ وأن تصوغ نصوصاً دستورية لا إطناب فيها ولا استرسال نصوصاً جامعة مانعة غير فضفاضة ولا ركيكة ولا حمالة أوجه وأن تستخدم عبارات وجملاً مختصرة متجانسة تناسب كونها مباديء عامة تفسرها قوانين ولوائح تنفيذية مباديء عقد اجتماعي لا يحتمل اللبس و التأويل مباديء تحمي الحريات وتصون الحقوق .وتنمي البشر وتحافظ علي تراب الوطن وسيادة ووحدة أراضيه وأبنائه وأن تكون المواطنة هي أساس هذا العقد ومرجعيته الحاكمة للحقوق والحريات والواجبات حتي لا نرتد إلي انقسامات تبدد مواطن القوة وتذهب بمقومات الوجود و الاستقرار والازدهار!! * نريد دستوراً لا يفرط في سيادة الشعب وكرامة أفراده ويؤسس لدولة مدنية حديثة عمادها القانون والمؤسسات دستوراً يحترم آدمية المواطن وكرامة السجين وحقوقه بسياسة سجنية تتبني المعايير الدولية لحقوق السجناء وتتخلي عن النهج العقابي الانتقامي إلي الإصلاح وإعادة الإدماج في المجتمع ..دستورًا يكفل حق التظاهر السلمي بلا قيود .ويضرب في الوقت نفسه بيد من حديد علي أيدي مثيري الفوضي والشغب والاضطرابات ..دستوراً يضمن تداول السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة هي أحد روافد الديمقراطية وأن يرسخ بقية مقوماتها في المجتمع عبر الممارسة والتوعية وأن يجعل مباشرة الحقوق السياسية واجبا مقدسًا علي المواطن وحقا علي الدولة أن تكفله وتحميه. * نريد دستورا يعلي من شأن القضاء ودولة القانون. ويضمن الفصل بين السلطات ويمنع حصار المحاكم أو تهديد القضاة أوالتدخل في شئونهم وأن يغل يد السلطة التنفيذية في ممارسة الوصاية عليهم وأن يحيل سلطات وزير العدل لمجلس القضاء الأعلي .وأن يكون للجمعيات العمومية للمحاكم القول الفصل في مجريات العدالة. * نريد دستورا يستوعب المتغيرات بروح مبدعة خلاقة.. دستورا يحيي السياسة ولا يؤممها يحنو علي الفقراء والمرضي يعالج تشوهات الاقتصاد وخلل المنظومة التشريعية التي جعلت نظامنا الاقتصادي ريعياً يعمل علي تراكم المال لا تراكم الرأسمال وبينهما فارق شاسع بالطبع دستورا يسرع من العدالة البطيئة ويذلل معوقات مرفق العدالة!! * نريد دستوراً يعيد صياغة منظومة الإعلام كما في الدول الديمقراطية منظومة بلا وزارة للإعلام ولا وصاية لمجلس الشوري علي المؤسسات الصحفية القومية دستوراً يتيح حرية تداول المعلومات وحرية الرأي والتعبير ويلغي الحبس في قضايا النشر ويمنع في الوقت ذاته التجاوز والتشويه والتضليل والتطاول و التجريح واغتيال السمعة والشرف ويعيد للصحافة مكانتها بحسبانها سلطة شعبية لا رقابة عليها إلا لميثاق الشرف المهني ونقابة الصحفيين وضمائر أهل المهنة!! * لاشك أن هناك قضايا ومسائل خلافية في انتظار لجنة الخمسين .وهناك من يحاول جرجرتها إلي جدل بيزنطي لإعاقة حركتها وتعطيل خارطة المستقبل ولكن الثقة كبيرة في قدرة أعضائها علي تجاوز تلك المعوقات وفي المقابل فإن ثمة قضايا لا خلاف عليها فيما أظن مثل ضرورة إلغاء مجلس الشوري ونسبة ال 50% عمالاً وفلاحين وتأسيس الأحزاب علي أساس ديني وتقليص صلاحيات الرئيس وسلطاته حتي لا نعيد إنتاج الرئيس الفرعون/نصف الإله الذي يتعامل بمنطق "أنا الدولة ..والدولة أنا" وألا يصبح تغيير النظام السياسي رهناً بتغير شخص الحاكم بمعني شخصنة النظام والدولة .خلافاً لما يحدث في الدول العريقة ديمقراطياً!! * نريد دستوراً يضمن بقاء الدولة بمؤسساتها واستراتيجياتها ومحدداتها الأساسية بصرف النظر عن شخص الحاكم وتوجهاته دستوراً ينهي عصر الزعيم الفرد الملهم والنظام الشمولي دستوراً لا تمسسه يد التغيير والعبث ثابت البنيان شديد الإحكام .يأتي بالحاكم ويمنعه من الاقتراب من نصوصه ومبادئه.. دستوراً يحظي بتوافق شعبي لا محاصصة فيه ولا استحواذ ولا مغالبة لأحد.. دستوراً يكفل النهضة ويفتح الآفاق للمستقبل .ويعيد صياغة العلاقة بين الشعب وحكامه .والإنسان وموارده ومستقبله.. دستوراً يسمح بالتعدد والقبول بالآخر ويبني الدولة علي أساس الحوكمة والعدالة الاجتماعية والمساواة وعدم التمييز مطلقاً. يا لجنة الخمسين.. هذه فرصتنا التاريخية للتغيير .وتلك أمانة وضعها الشعب في أعناقكم فاغتنموها لتصحيح المسار !!