في الخامس عشر من سبتمبر عام 1757 وقع في مصر سيل عرم هدم البيوت علي رءوس ساكنيها.. لكنه لم يهدم سوي بيوت الفقراء وبقيت القصور وعاش الأمراء.. وعندما كان السيل "عمالاً" علي رأي المؤرخ الراحل عبدالرحمن الجبرتي.. وقع الطاعون الذي تحالف مع السيل.. فمن نجا من السيول قتله الطاعون.. ولأن الطاعون وقع مع السيل سماه العامة "قارب شيحة اللي أخذ المليح والمليحة".. لأن الذي كان يهرب من السيل كان كمن يركب قارب الطاعون إلي حتفه.. ومن لم يمت غرقاً مات طعناً.. وفي ظل الطاعون والسيل والموت الذي يأتي المصريين من كل جانب وردت بشارة من اسطنبول بأن السلطان مصطفي العثماني ولد له مولود ذكر هو سليم الذي تولي السلطنة بعد ذلك.. وورد مع البشارة فرمان سلطاني بإقامة الأفراح والليالي الملاح وتعليق الزينات احتفالاً بالمولود السلطاني.. في عز السيل والطاعون.. ودائماً في مصر هناك ديمقراطية الحزن وحرية المآتم.. نحن أحرار في الحزن والغم والهم.. لكن الأفراح بالأمر والفرمان والقرار الفوقي.. والأصوب من ذلك أننا لسنا أحراراً لا في الحزن ولا في الفرح.. إذا تعلق الأمر بالسلطان أو الوالي أو الحاكم.. فإذا فرح السلطان علينا أن نرقص ونحن ندفن موتانا بالسيل أو الطاعون.. وإذا حزن السلطان علينا أن نلطم الخدود ونشق الجيوب ونحن نزف أبناءنا أو بناتنا إلي "بيت العدل".. ونحن عندنا فائض من الحزن والهم والغم.. أي أننا "بنتلكك" "علشان نحزن" في عز الفرح.. وعندنا ندرة حتي العدم في الفرح والسرور.. حتي أننا إذا فرحنا جداً نبكي ونسمي بكاءنا "دموع الفرح".. وإذا ضحكنا جداً نخاف ونقول: "اللهم اجعله خيراً".. نحن دائماً نتوقع أن وراء فرحتنا حزناً قادماً لا محالة.. لكننا لا نتوقع أي فرح وراء حزننا الطويل. وقد سألت أحد العارفين يوماً عن معني "بيت العدل" الذي نزف إليه أبناءنا أو بناتنا.. وهو غالباً مصطلح يقال عن زواج البنات فقط.. فقال: إن لذلك معنيين أولهما أن البنت ستنتقل إلي حياة "معدولة" بعد أن كانت في حياة مقلوبة قبل الزواج.. وهو معني ضعيف.. والمعني الأقوي هو "بيت العذل".. والعذل هو اللوم وحذفت نقطة الذال لتصبح دالاً كعادتنا في العامية حين نقول عن النذل.. الندل.. ونقول عن "البذلة البدلة" وغير ذلك.. أي أن العروس ستنتقل إلي بيت اللوم والمسئوليات والقيل والقال.. أي أن الفرح سيأتي بعده حزن ولوم لا محالة. ونحن نتحايل لنحزن ولا نتحايل لنفرح وأمثالنا العامية يغلب عليها الحزن ولا نصيب فيها للفرح.. حتي الفرح ناقص حيث نقول: "جات الحزينة تفرح مالقيتلهاش مطرح".. ونقول: "فرحة ما تمت خدها الغراب وطار".. مثل ما نسميها ثورة يناير التي أخذها الغراب أو أي طائر أو حيوان آخر وطار.. وأي حمار وغبي وأحمق يستطيع أن يفسد فرحتنا ويسرق فرحنا لكن أذكي الأذكياء أو أقوي الأقوياء لا يستطيع أن يسرق حزننا.. لأن الحزن هو تركيبتنا ويجري في دمنا وعروقنا.. ونحن لا نهتم بمن يشاركنا فرحنا ولا نلومه إذا تخلف عن الفرح.. لكننا نلوم من تخلف عن المأتم والحزن ونقول في أمثالنا العامية: "يا بخت من بكاني وبكي علي ولا ضحكني وضحك الناس علي".. نحب من يبكي معنا ولا ننساه لكننا ننسي من يضحك معنا.. ورغم أن مصر أكثر دول العالم ضحكاً وأن المصريين "فشتهم عايمة" دائماً فإنه كما قال المتنبي: "ضحك كالبكا".. فكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا.. وتجاربنا مع حكامنا ومسئولينا وأنظمة الحكم عندنا علمتنا أن القادم دائماً أسوأ "يا قاعدين يكفيكوا شر الجايين".. وهذا المثل بالتحديد يتردد منذ عهد المماليك.. فبعد أن يعتاد الناس سيئات السلطان أو الوالي أو الملتزم أو الكاشف أو العمدة ويعرفوا "ديته" والرشاوي التي تقدم له وكيفية اتقاء شره.. يفاجئهم مسئول جديد لا يعرفون أسلوبه في الفساد والرشوة ولا السبل والوسائل التي تجعله يرضي.. وهكذا يردد الناس قولهم الشهير: "يا قاعدين يكفيكوا شر الجايين".. كما يقول المصريون "نار أمي ولا جنة مرات أبويا".. أي أن نار الحاضر أفضل من جنة المجهول القادم.. ويقولون: "اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش".. الذي تعرفه سيئ لكنك اعتدت سيئاته.. والقادم سيئ لكنك لا تعرف حجم سيئاته.. ومعني ذلك أن السيئ الذي تعرفه خير من السيئ الذي تجهله.. يعني.. الكل سيئ ومن تعرفه أفضل ممن لا تعرفه. **** لذلك كله لم يحدث علي مر التاريخ المصري أن كانت هناك ثورات شعبية.. إن هي إلا أسماء سميناها نحن وآباؤنا ما أنزل الله بها من سلطان.. كانت هناك فتن ومازالت.. كانت "هوجات" ومازالت.. كانت ومازالت انقلابات قصور أو انقلابات عسكرية أو حركات أطلقنا عليها مباركة وما هي بمباركة ثم سميناها بعد حين ثورة علي طريقة صناعة الأصنام بأيدينا ثم عبادتها وإضفاء صفات القداسة علي غير المقدس.. مثل وصف الحركة بالمباركة أو التصحيحية أو وصف الثورة بالمجيدة أو العظيمة.. ووصف كل من يسقط في بالوعة أثناء الهوجة بأنه شهيد.. لم يثر المصريون ولن يثوروا لأن العقل الجمعي عندنا تعلم أن يحافظ علي الوضع السيئ خوفاً من الوضع الأسوأ.. لذلك نكره التغيير لأننا علي يقين بأنه تغيير إلي الأسوأ.. ولذلك أيضاً نكره الحاضر ونخاف المستقبل ونحن إلي الماضي حتي إذا كان ماضيا سيئاً ونقول في كل مرة "ياريتها دامت.. ولا يوم من أيام فلان أو علان".. تماماً مثل أغنية "سهران لوحدي".. من تأليف أحمد رامي وغناء أم كلثوم.. حنين إلي الماضي المر لأن الحاضر أمر "كان عهد جميل.. حاسد وعزول.. والبال مشغول.." وقالت قبلها: "حتي الجفا محروم منه.. ياريتها دامت أيامه". المصريون يقاومون التغيير لأنهم يرونه دائماً تغييراً إلي الأسوأ.. وهو بالفعل تغيير للأسوأ.. لم يحدث في عهد ولا في أي حقبة أن كان التغيير إلي الأفضل وهو دائماً إلي الأسوأ "والأزفت".. قد يكون "وشنا وحش أو قرفتنا وحشة أو قدمنا نحس.. أو هي دعوة ولية ساعة مغربية".. أو هو أمر الله بأن يبعث علينا إلي يوم القيامة من يسومنا سوء العذاب. مصر علي مر عصورها يحكمها دستور أو شعار "خليهم يتسلوا".. هذا شعار لم يخترعه مبارك.. ربما هو قاله صراحة لكنه دستور مطبق عملياً منذ فرعون إلي يوم القيامة.. فعندما حشر فرعون الناس في مليونية يوم الزينة كان شعاره ودستوره "خليهم يتسلوا".. وعندما صنع السامري لأجدادنا العجل الجسد الذي له خوار كان شعاره ودستوره "خليهم يتسلوا لحد ما يرجع موسي".. حتي أجدادنا قالوا إنهم سيظلون عاكفين علي العجل حتي يرجع إليهم موسي "يعني خلينا نتسلي لحد ما يرجع لنا موسي".. ومصر بلد التسالي والفوازير والألغاز التي تنثرها علينا العهود المتعاقبة "علشان نتسلي" ونتساءل ونقول "غلب حمارنا" لكن لا أحد يقدم حلاً أو جواباً فهم ونحن نريد أن نتسلي.. هم يتسلون بلفنا ودوراننا وبحثنا بلا طائل عن حل وحيرتنا.. ونحن نتسلي ونظل عاكفين علي العجول الجسد التي لها خوار حتي يرجع إلينا موسي.. لكن موسي لن يرجع لذلك سنظل نتسلي.. والسياسة في مصر هي سياسة اختراع الفوازير ولم تكن يوماً سياسة حلها.. المصريون محبوسون أبداً في منطقة "حزر فزر".. "حزر فزر من الذي قتل جنودنا في رفح؟ حزر فزر من الذي خطف الجنود السبعة؟ وهل كانوا سبعة أم ستة "ربي أعلم بعدتهم".. حزر فزر.. ما معني أن مجلس الشوري باطل ومستمر؟ هل هو مثل حب جميل بن معمر لبثينة؟ عندما قال فيها: وإن قلت ما بي يا بثينة قاتلي وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به من الحب.. قالت: ثابت ويزيد مع الناس.. قالت: ذاك منك بعيد فرعون والفاطميون والمماليك والعثمانيون ومحمد علي وأولاده وثوار 1952 وثوار 1971 "وبتوع الصحوة وبتوع النهضة" حكمونا ويحكموننا بمبدأ دستوري واحد هو "خليهم يتسلوا".. ونحن فعلاً نتسلي.. نتسلي بالتيارات والائتلافات والأحزاب والإعلام والدعوة والفتوي والاجتماعات والتصريحات.. نتسلي بالمليونيات والحركات.. وكل حكامنا علي مر العصور في بطونهم "شوادر بطيخ صيفي" بأن زوابعنا في فنجان.. ومليونياتنا فشنك.. وكل شيء في أول يوليو وأول كل شهر سيكون علي ما يرام.. مليونية في التحرير.. مليونية في الاتحادية.. مليونية في رابعة "خليهم يتسلوا". **** كل القضايا المطروحة والمثيرة للزوابع ليست سوي قضايا للتسالي علي طريقة: "بص.. العصفورة ثم ينشلك".. العقل الجمعي "منشول ومسروق دوماً" بشعار "خليهم يتسلوا".. سد النهضة.. حزر فزر هل هو خطر أم "تسال"؟.. مشروع تنمية القناة.. الدستور.. التأسيسية.. الشوري.. مؤتمر العدالة.. أزمة القضاة.. وقبل ذلك.. توشكي.. والإرهاب.. ومباراة الجزائر والأهلي والزمالك.. والانتخابات المضروبة.. كل هذه ليست ولم تكن ولن تكون قضايا أو مشروعات حقيقية.. لكنها فوازير للتسلية.. فوازير طوال العام وليست في رمضان فقط.. المطلوب ألا نفيق.. ألا نلتقط أنفاسنا.. أن نظل نتلفت حولنا طوال الوقت.. أن يقلبونا ذات اليمين وذات الشمال.. أن "يدوخونا السبع دوخات".. حتي نسقط من الإعياء "ويقلبوا جيوبنا وعقولنا وكرات دمنا" ليسرقوا قيمنا ومبادئنا ووطننا.. ونحن نتسلي. في مصر.. كل الجرائم الكبري ضد مجهول حتي نظل نحن نتسلي.. "ونتقلي" علي الجمر.. الوطن مخطوف ومسروق والخاطف والسارق مجهولان.. هناك دائماً جثة وقتيل ولكننا لا نعرف القاتل.. هناك دائماً مذابح لا نعرف مرتكبيها.. هناك فساد ولا نعرف المفسدين.. هناك دائماً تحقيقات لا تنتهي إلي شيء.. ولجان تقصي حقائق تتقاضي مكافآت بالملايين ولكن لا توجد في مصر حقائق.. بل إن لجان تقصي الحقائق هي مقابر الحقائق وهي لجان طمس الحقائق.. مجنون من يراهن علي جهة أو مؤسسة في مصر.. مجنون من يراهن علي حزب أو تيار.. مجنون وأبله من يراهن علي فستان أو جلباب.. علي باروكة أو نقاب.. علي الأملس أو الملتحي.. بل أحمق من يراهن علي الشعب ومليونياته وحركاته.. فقد اعتدنا أن نلبس ما يفصله لنا النظام الحاكم.. ضيق.. واسع.. لا يهم.. علينا أن نكش للضيق وننتفخ للواسع.. الظلم والفقر والذل والهوان.. ليس كل هؤلاء آباء الثورات.. ولكن أبا الثورات كلها هو الإحساس بالظلم والفقر والذل والهوان.. وإذا فقدنا الإحساس فلا تنتظر خيراً أبداً وسنظل علي مر العهود محكومين بدستور وشعار: "خليهم يتسلوا.. ويتذلوا"!!! نظرة من التسالي التي أدمنها المصريون علي مر العهود الفتاوي الغريبة والعجيبة التي تعد من أهم الأدوات لشغل الناس وإبعادهم عن القضايا المهمة والكوارث التي يرتكبها الحكام.. حدث هذا في الماضي ويحدث الآن وسيحدث غداً.. في كل عهد مجموعة من المفتين الذين يقدحون زناد تفكيرهم من أجل اختراع فتاوي وآراء فقهية مثيرة للغط.. بل والفتن أيضاً.. "ويقطع الناس هدوم بعضهم".. وتنجو السلطة بذنوبها "وبلاويها".. وفي التاسع من أكتوبر عام 1820 خلال حكم محمد علي أفتي الشيخ إبراهيم باشا المالكي في أحد مساجد الإسكندرية بأن ذبيحة أو ذبائح أهل الكتاب في حكم الميتة ولا يجوز للمسلم أكلها وأن الحل لذبائحهم وطعامهم الوارد في القرآن كان قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم.. وقال إنه أخذ الفتوي من أستاذه الشيخ علي الميلي المغربي.. وكتب المغربي كراسة في هذا الأمر حمل فيها علي علماء وحكام زمانه وأكد حرمة ذبائح أهل الكتاب.. ورفض علماء الأزهر فتوي الشيخين.. ومنهم الشيخ محمد العروسي الذي قال إن المغربي مختل عقلياً وغير مخالط للناس ولا يؤخذ برأيه.. ووافقه في ذلك علماء الأزهر ومنهم الشيخ محمد بن الأمير والشيخ حسن القويسني.. ووصل رأي العلماء إلي محمد علي فأمر بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلي بني غازي.. بينما اختفي المغربي ولم يعثر له علي أثر.. ما أشبه الليلة بالبارحة.. كانت ذبائح أهل الكتاب جراماً وميتة.. واليوم تهنئتهم بأعيادهم حرام وربما كفر.. "وياما في الجراب يا حاوي".. "وكما أن الفاضي يعمل قاضي فإن الداهية يعمل داعية".. وقد وصلنا إلي زمان يقام فيه الحد علي سارق "الفرخة".. وتقام الاحتفالات تكريماً لسارق الوطن!!