ارتبط شهر رمضان لدي المصريين والعرب - منذ نصف قرن أو أكثر - بعدة ظواهر إعلامية، وتعد الفوازير - إذاعية كانت أو تليفزيونية - أهم هذه الظواهر وأشهرها، حتي عدها الناس - وعلي سبيل المزاح - من أركان الصيام! لقد امتدت رحلة فوازير رمضان في وسائط الإعلام المصرية لأكثر من نصف قرن، حيث بدأت مع هلال يوم الخميس الأول من رمضان سنة 1375ه وتطورت وانتشرت حتي ترهلت وقاربت علي الاندثار، والمقالة الحالية ترصد الجذور التاريخية لفوازير رمضان وتتتبع مراحل تطورها . تعد الألغاز الشعرية بمثابة الأب الشرعي لما عرف في عصرنا الحالي باسم الفوازير، واللغز في المعاجم هو ما ىُعمّي به من كلام، وقد انتشرت الألغاز في الشعر العربي خلال مختلف عصوره، حتي أن هناك من كتب الأدب ما انعقد فيه فصل أو جزء من فصل للألغاز الشعرية، بينما تناثرت الألغاز في البعض الآخر، يوردها الكاتب للتدليل علي موهبة الشاعر وتمكنه من أدواته الشعرية، ومن النوع الأول نذكر كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف"، الذي عقد فيه مؤلفه شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي ( 790-850ه ) فصلاً للألغاز في الباب الثاني والسبعين. ومما تضمنه هذا الفصل الألغاز التالية : في غزال/ اسم من قد هويته ظاهر في حروفه فإذا زال ربعه زال باقي حروفه في طاحون/ ومسرعة في سيرها طول دهرها تراها مدي الأيام تمشي ولا تتعب وفي سيرها ما تقطع الأكل ساعة وتأكل مع طول المدي وهي لا تشرب وما قطعت في السير خمس أذرع ولا ثلث ثمنٍ من ذراع ولا أقرب/ في النار/ وآكلة بغير فم وبطن لها الأشجار والحيوان قوتُ إذا أطعمتها انتعشت وعاشت وإن أسقيتها ماءً تموتُ، ويجيء في النوع الثاني من الكتب أكثر من كتاب، اهتمت جميعها بضرب المثل علي شاعرية الشاعر بذكر بعض ما ألغز فيه من شعر. ومن ذلك ما أورده ابن إياس في ثنايا ترجمته للشيخ عبد القادر الدماصي في الجزء الرابع من كتاب " بدائع الزهور في وقائع الدهور "، فكان مما جاء في هذه الترجمة الآتي : " وكان فاضلاً ناظماً ناثراً فكه المحاضرة بقية السلف عشير الناس، وكان له شعر جيد، ومن نظمه ما ألغزه في غزال وبعث به إلي الشهاب المنصوري : مولاي ما اسمٌٌ لوحش نافر أنسي في مأربي منه أشياء جُمّعت فيه حروفه أربعة لكنها عجب إن زال أول حرف زال باقي" لقد تنوعت الألغاز الشعرية التي تفتقت عنها قرائح المجيدين من الشعراء، حتي شملت الآلات والأدوات والحيوانات والنباتات، بل ووصلت إلي أسماء المدن والبلاد. وها هو الشاعر الصوفي الأشهر عمر بن الفارض ( توفي 576ه / 1181م ) يلغز مدينة حلب شعراً فيقول: ما بلدة بالشام قلب اسمها تصحيفه أخري بأرض العجم وثلثه إن زال من قلبه وجدته طيراً شجىّ النعم ولابن الفارض في ديوانه مجموعة أخري من الألغاز، تنطق ببراعته وعمق شاعريته . لم يكن إبن الفارض وحده بين المجيدين من الشعراء من حوي ديوانه بابا للألغاز، حيث حوي ديوان المعتمد بن عباد : ملك أشبيلية وشاعرها العظيم (توفي 1095م) بابا للألغاز أيضاً، وقد أسماها محققا الديوان " المعميات "، وهي قصائد كانت تتري بين المعتمد ووزيره الشاعر الشهير : ابن زيدون (توفي 1071م). أصل الفزورة شابت اللغة العربية عجمة واضحة بعد ظهور الإسلام، وذلك جراء اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب المجاورة في بلاد فارس والعراق ومصر وغيرها، وقد تعددت مظاهر تلك العجمة، وإن كان تشوه مخارج الحروف والتصحيف واللحن وافتقاد البلاغة تعد أهم تلك المظاهر، إن ما يعنينا هنا هو التصحيف، وصحّف الكلمة في اللغة يراد بها كتابة الكلمة أو قراءتها علي غير صحتها بإبدال الحروف أو تحريكها، ومن ذلك قولهم " همار وهش " بدلاً من " حمار وحش "، وقد أوقف ابن قتيبة الدينوري بابا للتصحيف في كتابه " أدب الكاتب " وجعل اسمه " باب ما تصحف فيه العوام "، ومما أورده ابن قتيبة في هذا الباب من أمثلة لتصحيف العوام قولهم " ملح أندراني " بدلاً من " ملح ذرآني "، وقولهم " نعق الغراب " وصحيحه " نغق الغراب " لذلك يمكن القول بأن اسم الفزورة يعود إلي الفعل (حَزَرَ)، وحَزَرَ الشيء أي قدره بالتخمين، فإذا ما لحق التصحيف بالفعل (حَزَرَ) ليصبح (فَزّرَْ) بصيغة الأمر، ثم تبعه تصحيف آخر علي ألسنة الوالدات والجدات بإبدال حرف الحاء بالفاء، لتصبح جملة (حَزّرْ ...فزّرْ ) هي مفتتح لكل لغز يروي للصغار، ومن ذلك ألغازهن عن القمر بما يلي : " حَزّرْ ...فزّرْ.. قد الكف ويلف البلد لف "، وقولهن عن الناموسية : " حَزّرْ ...فزّرْ ... قد الفيل ويتصرّ ف منديل "، والإشارة إلي النخلة بما يلي : " طويل طويل وله عمة خضرا "، وإلي غير ذلك من فوازير استمع اليها جيلي في مطلع الخمسينات من القرن العشرين من أفواه العجائز والكبار من نساء الأسر المصرية . إن ما سبق من تعريف للفزورة، يتفق تماماً مع ما صكه عملاق الأدب العربي: عباس محمود العقاد لها من تعريف، حيث ذكر الأستاذ العقاد في مقالة نشرت بعدد 31/5/1961م من صحيفة " الأخبار " تحت عنوان " الفازورة والصورة التجريدية " الآتي: "وأنت (المخاطب هو فنان تجريدي) في صناعة الفوازير مثلك مثل كل (فوازيري)، مع الفارق الكبير جداً بين الفازورة والصورة التجريدية، وذلك الفارق الكبير جداً هو أن الفازورة قابلة للامتحان عند إعلان حلها وتفسيرها". وبالرغم من أن الأستاذ العقاد قد صك اسم الفزورة بزيادة ألف بعد حرف الفاء، ولست أزعم أنني أعلم سبباً لهذه الزيادة، إلا أن مضمون تعريفه للفازورة أو الفزورة يتفق مع ما سبق القول به هنا، من التعمية أو الألغاز حول ما هو معلوم أو معروف للمستمع أو المتلقي .