1⁄4 اللهم اغفر لي خطأي. وعمدي.. وجهلي. وقصدي.. وهزلي. وجدي. وكل ذلك عندي.. اللهم إني أقول كما قال نبيك نوح عليه السلام. وأنا لست مثله ولن أكون: إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً. فلم يزدهم دعائي إلا فراراً.. وإني كلما دعوتهم إلي ما أري أنه صواب.. وقد لا يكون.. جعلوا أصابعهم في آذانهم.. واستغشوا ثيابهم. وأصروا واستكبروا استكباراً.. لم تأخذني العزة بالإثم يوماً. يا صديقي وأخي في الله.. محمد عبدالعزيز الطنطاوي.. ويا صديقي أو صديقتي رولا.. يا أخي محمد.. لقد أخجلتني بإطرائك. وأرجو أن أكون بعض ما وصفتني.. أنا أصيب مرة وأخطئ مراراً. وعندي والحمد لله فضيلة الاستغفار.. والرجوع في كلامي إذا رأيتُني علي غير صواب.. وقد قلت للناس ألف مرة: لا تحكموا علي سطوري بأنني متشائم أو متفائل.. بأنني أكتب فقط عن السلبيات.. ولا أكتب عن الإيجابيات.. ما هكذا تورد الإبل يا ناس.. قولوا: صدقت.. أو قولوا: كذبت.. اكتبوا لي عن أشياء حلوة وجميلة عميت عنها لأعرفها.. وارد أنكم ترون ما لا أري.. ولن أقول لكم ما قاله فرعون. وكل الفراعين من بعده للمصريين: ما أريكم إلا ما أري. وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.. لن أستخفكم لتطيعوني. كما فعل فرعون مع قومه الفاسقين.. وما فعله الفراعين من بعده مع قومنا الفاسقين. اللغة مثل الدنيا عرض زائل. يستخدمها البر والفاجر.. والصادق والكاذب.. وقد يكون الفاجر والكاذب أكثر فصاحة وبلاغة.. من البر والصادق.. وقد أنبأنا رسول الله "صلي الله عليه وسلم" أن الخصمين يأتيانه وقد يكون الذي عليه الحق ألحن من الذي له الحق. فيحصل علي الحكم لصالحه.. وإنما قد حكم له بقطعة من النار.. وألحن من صاحبه أي أفصح وأقوي حجة. ونحن في زماننا هذا أحوج إلي الحذر من الذين سبقونا.. وليس صحيحاً أبداً في زماننا أن الحق أبلج. والباطل لجلج.. بل الباطل هو الأبلج. وهو الأفصح. والأبلغ والأقوي حجة. والألحن.. وأعذب القول عندنا أكذبه.. وكثر فينا الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لنحسبه من الكتاب وما هو من الكتاب.. كثر الذين اشتروا الدنيا بالدين.. واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.. كثر الذين يرتكبون المقت الكبير بأن يقولوا ما لا يفعلون.. "كله كلام".. التدين كلام. والقانون كلام. والسياسة كلام. والنهضة كلام.. والإعلام والصحافة كلام. والثورة كلام.. والمليونيات هي ذلك الخبيث الذي تعجبنا كثرته.. وقد حذرنا الله من الإعجاب بالكثير الخبيث.. حذرنا رسول الله "صلي الله عليه وسلم" من غثاء السيل.. ومن الزبد الذي يذهب جفاء.. ومن علامة نستدل بها علي غضب الله علينا فنتوب: إذا غضب الله علي قوم أعطاهم كثرة الجدل. وقلة العمل.. وقد شاع فينا الجدل وقل. أو انعدم العمل إلا العمل الطالح والشرير.. فذلك هو الذي نفعله ولا نقوله. لن نأمن لهم.. والشك فيهم فضيلة.. والتحذير من الوقوع في شراكهم من الإيمان.. إنها فتن كقطع الليل المظلم.. يمسي المرء مؤمناً ويصبح كافراً.. ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويمرق من الدين كما تمرق الرمية من السهم.. ولو أدركهم رسول الله "صلي الله عليه وسلم" لقتلهم قتل عاد وإرم.. لكنه "صلي الله عليه وسلم" ترك فينا ما إن تمسكنا به فلن نضل بعده أبداً.. كتاب الله وسُنَّة رسوله.. "صلي الله عليه وسلم". لقد أنبأنا الله ورسوله بأخبارهم.. فهم الرويبضة.. الرجل التافه يتكلم في أمور العامة.. الحُفاة العُراة رعاة الشاة المتطاولون في البنيان.. الخابطون في الدين والسياسة خبط عشواء الليل. كما وصف الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان.. واليه علي العراق "الحجاج بن يوسف الثقفي".. المتولون علي الأمور وهم غير أهلها.. الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض. قالوا: إنما نحن مصلحون.. هم المفسدون ولكن لا يشعرون.. الذين يجعلون رزقهم أنهم يكذبون ويخدعون ويستخفون قومهم الفاسقين فيطيعونهم. لست متشائماً. ولا يائساً. ولكني مؤمن بما أنبأنا به الله ورسوله "صلي الله عليه وسلم".. كل هذا العبث والباطل وكثرة الخبيث. ومليونياته. وغوغائه. وغثاء سيله. يزيدني إيماناً ويقيناً بأن وعد الله حق.. لم يكن المؤمنون علي عهد رسول الله "صلي الله عليه وسلم" يائسين عندما رأوا الأحزاب فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.. وصدق الله ورسوله.. لست يائساً ولا متشائماً. بل يزيدني ذلك الركام من الشر والباطل يقيناً.. وأقول: صدق الله ورسوله.. وكل ما أفعله ليس أبداً محاولة لتبديل أو تغيير سُنَّة الله. حاشاي أن أفعل أو حتي أفكر.. لكنني أتسلح بالشك في كل ما أسمع وأقرأ.. وأغرس الفسيلة بين يدي الساعة. وأبرأ إلي الله مما يفعل قومي. **** * لن يكون القادم أفضل أبداً.. بل هو أسوأ.. هذا ليس تشاؤماً ولا يأساً. بل هو إيمان ويقين.. والذين يقولون إن القادم أفضل. "وبكره أحلي" هم المخدوعون. والمكذبون.. الخادعون والكاذبون.. وحديث حذيفة بن اليمان. وسؤاله لرسول الله "صلي الله عليه وسلم". وجواب الرسول يؤكد ذلك.. وهل بعد هذا الخير من شر؟!.. قال: نعم.. هُدنة علي دَخن. وجماعة علي أقذاء.. وقد شرحنا من قبل الذخن أو الدخل أو الدغل.. والأقذاء.. إنها نفس حكاية الأعرابي الذي كان أحدب.. وبينما هو يمشي في الطريق. إذا به يسقط في بئر.. فأُخرج منها. وقد ذهبت حدبته. واستقام عوده.. لكنه أصيب بورم مزمن ومؤلم وعاهة مستديمة في خصيتيه.. فأقبل الناس عليه يهنئونه بذهاب وزوال حدبته.. فكان يقول لكل مَن يزوره: إن الذي جاء شر من الذي ذهب. اقرأ هذا المشهد جيداً. لتوقن بأن الليلة في مصر تشبه البارحة.. وأن التاريخ يعيد مساوئه بأشخاص وأبطال مختلفين.. هذا مشهد من ذلك الذي سميناه في التاريخ ثورة القاهرة الأولي ضد الحملة الفرنسية.. إذ يقول المؤرخ الكبير الراحل عبدالرحمن الجبرتي: وفي يوم السبت عاشر جُمادَي الأولي.. انتبذ جماعة من العامة وتناجوا فيما فعله الفرنسيس من ضبط الحواصل. والوكائل والدكاكين والبيوت "أي تسجيلها وفرض ضرائب عليها".. وكبر ذلك عليهم واعتبروه كفراً. ووافقهم علي ذلك بعض المعممين.. فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم.. وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلي الجهاد ضد الكفرة عازمين.. وأبرزوا ما أخفوه من السلاح. وآلات الحرب والكفاح.. وحضر السيد بدر "لا أعرف مَن هو". وصُحبته حشرات الحسينية. "أي العامة". وزُعَر الحارات البرانية. "فتوات الحارات خارج الحسينية.. وهم من نسميهم اليوم البلطجية".. ولهم صياح عظيم وهول جسيم. ويقولون بصياح في الكلام "أي هتاف": نصر الله دين الإسلام "يعني.. إسلامية إسلامية.. بتاعة اليومين دول.. وخللي بالك. مين اللي بيهتف".. فذهبوا إلي بيت القاضي وأحاطوا به "يعني دار القضاء العالي الآن".. وحاصروا البيت. وتبعهم مَن علي شاكلتهم.. نحو الألف وأكثر.. فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه. وأوقف حُجَّابه. فرجموه بالحجارة والطوب.. وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب.. واجتمع بالأزهر جمع غفير من الزعر والحشرات.. وصادفت الجموع الغاضبة القائد الفرنساوي ديوي. وبعض عساكره عند بين القصرين.. فبادروا إليه وضربوه. وأثخنوا جراحاته. وقتل الكثير من فرسانه.. وعند ذلك أخذ المسلمون. "أي الثوار الآن" حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون. ومسكوا الأطراف الدائرة بمعظم أخطاط القاهرة "أي قطعوا كل الطرق بمليونياتهم".. مثل: باب الفتوح. وباب النصر. وباب الشعرية. والبرقية. وباب زويلة. وجهة البندقانيين.. "كانت هذه ميادين الثورة أيامها.. وتساوي الآن: التحرير ورابعة العدوية والاتحادية وجامعة القاهرة. وعبدالمنعم رياض".. وهدمت هذه الجموع مصاطب الحوانيت وجعلوا أحجارها متاريس وأسلحة مثل "هدم الأرصفة الآن. والكباري لاستخدام حجارتها في المعركة".. وظهر بعض الجنود الفرنساوية من ناحية المناخلية. وبندقوا علي المتاريس. "أي ضربوها بالبنادق" حتي أجلوا العامة والزعر.. وتحول هؤلاء العامة بعد فرارهم أمام الفرنسيس إلي النهب والسلب.. فنهبوا دور النصاري الشوام. والأروام. وما جاورها من بيوت المسلمين علي التمام. وأخذوا الودائع والأمانات.. وسَبَوْا النساء والبنات "اغتصبوهن" ونهبوا الخانات والدكاكين والوكالات. وأكثروا من المعايب. ولم يفكروا في العواقب.. وعندما هجم الفرنسيس علي الحارات بالمدافع والقنابر. تعالت الصيحات: يا سلام من هذه الآلام.. يا خفي الألطاف.. نجنا مما نخاف. **** * كان الجبرتي يصف نفس المشاهد التي نراها منذ 25 يناير "إياه".. يبدأ الأمر بالهتاف وإطلاق الشعارات الجميلة ثم يتحول الهاتفون ومطلقو الشعارات الجميلة والمدافعون عن الشعب والدين إلي نهابين وبلطجية وقتلة ولصوص وسارقين لأمن الشعب.. وحريته وقيمه.. وفي كل عهودنا يركب الزعر والحشرات والغوغاء ثوراتنا. ومناهجنا ومؤسساتنا وانتخاباتنا. ويسوقونها إلي بغيتهم وأهدافهم الخبيثة.. ويحافظون علي الوضع المنفلت والسييء لأنهم مستفيدون منه.. وكلما هدأت الدنيا من حولنا عادوا إلي التصعيد للحفاظ علي الانفلات وترسيخ العشوائية لتبقي مصر دائماً في قبضة أولاد الشوارع والزعر الذين يحققون الملايين من انهيار الدولة والأمن والمؤسسات.. لأن هدم كل هذا فيه بناء لثروات البلطجية والزعر.. لأن ثوراتنا المنفلتة لها أغنياء مثل أغنياء الحروب.. وأغنياء الهدم.. وأغنياء الموت.. فلكل شر أنصاره المحافظون عليه. والمسترزقون منه.. مثل مقاولي الأنقاض وتجار الأزمات.. والحانوتية أغنياء الموت.. والأطباء أغنياء المرض.. والإعلاميين والصحفيين نجوم وأثرياء الكوارث.. والمحامين أغنياء الجرائم الذين تدعو لهم أمهاتهم وزوجاتهم وهم خارجون في الصباح "روح.. ربنا يرزقك بجناية".. الهاتفون في ثوراتنا والمحشورون في مليونياتهم هم الندابات والنائحات بأجر في جنازة وطن.. وليست بينهن نائحة ثَكلَي.. كلهن نائحات مستأجرات.. المستفيدون من الشر عندنا أضعاف أضعاف المستفيدين من الخير.. المستفيدون من المعركة والخصومة أضعاف أضعاف المستفيدين من السلام والمصالحة.. لا تشبع تقليباً في ألبوم صور تاريخنا.. تأمل المشاهد.. وصور الخرائب والعشوائيات ومقالب القمامة.. ولن تري في الألبوم إلا صور الغربان والبوم!!! نظرة * كنا زمان نتباهي بهيبة الدولة.. والآن فقدنا العقل. حتي أننا نزهو بخيبة الدولة.. "راحت الهيبة وجاءت الخيبة".. و"الخيبة الآن بالويبة".. والسباق بيننا ليس علي استعادة الهيبة. ولكن علي استمرار الخيبة.. ويقال إن هيبة المرء أن يزيد عقله علي منطقه.. لكن خيبته أن يزيد منطقه علي عقله.. وهيبة وخيبة الدولة كذلك.. وعندنا تراجع العقل وتقدم المنطق واللسان.. والناس يقولون ليقال "قَوَّال".. ويكتبون ليقال "كاتب".. وكان الناس فيما مضي يختلفون علي أمرين كل منهما خير.. واليوم نختلف علي أمرين كل منهما شر ويروي أن إبراهيم النخعي لقي الأعمش في الطريق فمشي إبراهيم معه.. فقال له الأعمش: ليذهب كل منا في طريق. فإن الناس إذا رأونا قالوا: أعور وأعمش.. فقال له إبراهيم: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟!.. فقال الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم.. نعم.. كل من الأمرين خير. ويقول الشاعر: وما بقيت من اللذات إلا .. محادثة الرجال ذوي العقول وقد كانوا إذا ذكروا قليلاً .. فقد صاروا أقل من القليل