كانت إحدى هواياتي أن أجلس بجانب أبي إن رأيته يتجه لكتبه بحثاً عن كتاب أو قاموس. والبحث عند أبي يعني التصفح، والتجول في كتبه، حتى بعد أن يجد ضالته. كنت أجلس بجانبه مستمتعة بالألوان والأغلفة حينما كنت لا أعرف من الكتابة شيئاً سوى بعض الجمل البسيطة، وقبل أن أتمكن من إتقان رسم حرف Q الكبيتال والتفرقة بين السمول منه وحرف P في اللغة الانجليزية التي إليها تنتمي أغلب كتب أبي. بدأت هذه الهواية مبكراً، ولم أزل أذكر ثلاثة كتب كانت تُسحرني بأغلفتها، منها غلاف عليه فتاة ممتلئة القوام متوردة الوجه تتكئ بجانبها على ذراع كرسي، وآخر يتوسطه العنوان بخط مزخرف أقرب للخط الأندلسي تحيطه زخارف كأنها من أحد القصور. استمرت هذه الهواية معي حتى دخلت المدرسة وصرت أقرأ اللغة الانجليزية دون أن فهم كل ما أقرأه، وعرفت أن الكتب الثلاثة بعنوان واحد وثلاثة أغلفة مختلفة فما كان مني إلا أن سألت أبي عنPride and Prejudice، معناها، ولماذا يحتفظ بثلاثة منها؟ يبتسم وهو يخبرني أنها من أجمل الروايات التي قرأها، ولا يذكر لماذا اقتنى ثلاثة منها. وبينما أنظر للأغلفة لأختار أيهما أجمل لأقرأه حينما أكبر، يتمنى أبي أن أقرأها يوماً وأناقشه فيها. والتحقت بكلية الآداب قسم اللغة الانجليزية ولم تُقرَر علينا الرواية ونسيتُ سحري الطفولي غير المُمنطق بها فلم أقرأها، فظلّت في سرداب ذاكرتي، حتى عندما أرتني صديقة جميلة مشهدا من الفيلم المأخوذ عنها والذي تم إنتاجه في 2005. وبينما أحاول الحفاظ على سلامتي النفسية والذهنية من تلوث حياتنا المصرية بأخبار الظلم واستشراء الفساد، وعوادم السيارات القاتلة، والقبح المرئي والمسموع والمحسوس والذي صار يطاردنا، تذكرت Pride and Prejudice فجأة. فقد كنت في أمس الحاجة لجرعة جمال، وهواء نظيف، وآلة زمن!! وقد كان لي ما أردتُ عندما حصلت على الفيلم. ولأن مشاهدة الأفلام لدي كقراءة الكتب، انتظرتُ هدأةَ الليل حينما تخبو الأنفاس ولن يحتاجني أو يقاطعني أحد بنداء أو رسالة أو اتصال. الرواية للكاتبة الإنجليزية Jane Austen، نشرت عام 1813، وتدور حول أسرة (إليزابيث بينت)؛ فتاة مثقفة، مستقلة، تهوى القراءة والاطلاع، وهي الابنة الثانية من بنات مستر بينت الخمس اللاتي تتوق والدتهن لتزويجهن برجال ميسورين خصوصاً وأن كل ما يملكه والدهن سيرثه ابن عمهن وفقاً للقانون. وتصور الرواية حياة إحدى طبقات المجتمع الانجليزي في أوائل القرن التاسع عشر، حيث يملك الرجال الكثير من الأراضي التي يديرونها بأنفسهم دون الحاجة لكسب العيش من عمل آخر، وقد اختار مستر بينت الحياة في الريف تفضيلا لها عن حياة المدينة (لندن) التي تبعد عنهم بضع كيلومترات. تتطور الأحداث بوصول مستر بنجلي الذي استأجر أرضاً وبيتاً كبيراً بجوار عائلة مستر بينت. وتتم دعوة عائلات القرية للاحتفال بقدوم الشاب الثري المتعلم الوسيم والذي كانت بصحبته أخته المتأنقة المتصنعة، وصديقه الصدوق مستر دارسي، الشاب الثري المتعجرف ظاهرياً. وبينما ينصهر مستر بنجلي الودود مع الناس وتنشأ علاقة عاطفية تنبئ بخطوبة قريباً بينه وبين جين الأخت الكبرى لإليزابيث، يستمر مستر دارسي في ازدراء كل ما ومَنْ حوله، بما في ذلك إليزابيث الفتاة المعتزة بنفسها والتي حاولت أن تتواصل معه فرفضها بأسلوب متكبر غير لائق. فما كان منها إلا أن قررت الرد على غطرسته بكبرياء مماثل ومعلن في شكل تعليقات لمّاحة ذكية لا تخلو من نبرة ساخرة. وإن لم تكن تنجح تعليقاتُها في إغاظته، فقد كانت كفيلة بكشف جانب من شخصيتها جذب انتباه مستر دارسي ومن ثم عاطفته. لا أريد أن أحرق عليكم متعة مشاهدة الفيلم أو قراءة الرواية بذكر تفاصيل الأحداث، والنهاية. ولكنني لا يمكننى إخفاء تأثري الذي بلغ حد الولع بكل ما رأيته وما أقرأه الآن من الرواية. ولا يرجع ذلك فقط لحبي للأدب الانجليزي وتعلقي بهذه الفترة الزمنية (القرن الثامن عشر والعصر الفكتوري). ولكن بسبب المقارنة التي عقدها ذهني تلقائياً بين ما أعيشه مرغمة، وحلم أعايشه في روايات وأفلام تقارب جمال عالم Jane Austen حين كان للخصوصية هالة مقدسة، وكان للكلمات مقدار موزون بميزان الذهب الذي يوضع داخل صندوق زجاجي محكم الغلق حتى لا يؤثر الهواء على دقته، وربما.... الأهواء!! وهالني كيف أن الكثيرين يخاطبون الناس بكلمة "يا جميل" و"يا حبيب/تي" دون أن يكون هناك معرفة وثيقة أو صلة وطيدة تغفر هذا التودد الزائف. وكيف أنه صار من المألوف أن نرى في الشارع شباباً يتحدثون بأصوات مرتفعة وينادون بعضهم بألفاظ سباب وليس باسم التدليل. وإن أراد أحد أن يتحفظ على أسلوب الفئة الأولى يكون الرد أنهم لا يقصدون شيئاً وليس في نيتهم التدليل! وإن تحفظنا على الفئة الثانية يكون نفس الرد بأنهم لا يقصدون السباب حتى وإن كان بعضه يمس الأب والأم والأعراض. أي ألخص ذلك في كلمة الزيف.. أتذكر إليزابيت حينما دعتها سيدة القصر بأن تعزف على البيانو، فعندما رفضت وأصرّت السيدة أن تعزف ظناً منها أنها ترفض استحياءً وتريد مَنْ يصر عليها، قالت إليزابيث جملة رائعة: " I'm not afflicted with false modesty" أي أنها عندما قالت إنها لا تعزف جيداً فهي تعني ذلك حقاً حقاً. وراقت لي شخصية مستر دارسي التي قام بآدائها بإتقان الممثل الانجليزي العبقري الساحر الصوت والطلة Matthew Macfadyen، شخصية تخفي بتأففها طيبة ونبلاً نادراً.. أهو مسبار الحب الذي يخرج ما كنّ في النفس من كنوز؟ أم أنه كما بدا في الفيلم نبل متأصلٌ وغير طارئ وأن العناد والحكم السريع كان السبب في إخفائه؟؟ وبينما أتعجب مع إصرار دارسي على حب إليزابيث، تذكرت جلسة كنت فيها الراصد المستمع دارت حول قصة شاب أحب فتاة وتقدم إليها عدة مرات ويرفض والدها، حتى كان له ما أراد وسعى إليه بعد سنوات من السفر والكد. انقسم الحضور إلى فريقين، فريق رافض بتعنت وتعصب وتشكيك في رجولته وكله من الشباب الذكور، وفريق متعاطف وسعيد بنجاح سعيه وكلهن إناث. تعجبت من الفكر الذي حكم به الشباب على الرجل بأن لا كرامة له ولا كبرياء. والآن، أتساءل كيف سينظر الناس لقصة حب معروفة بأنها قصة حب كل الأزمنة، أهي قصة حب كل الأزمنة عدا زماننا أم بلدنا نحن؟!! وماذا إذن سيكون مستر دارسي في وجهة نظرهم وهو الرجل -بمعنى الكلمة- المتعلم، الكريم المحتد، المثقف، الثري الذي تقدم مرتين لإليزابيث. رفضت في الأولى، لكنه كما يقول أبو فراس الحمداني: أساء فزادته الإساءة حظوة / حبيبٌ على ما كان منه حبيبُ. فأصرّ رغم استمرارها في مجافاته بسبب سوء حكمها على جوهره بظاهره. أصرّ وفعل الكثير دون أن يخبرها أن كل ما يفعله لأجلها هي فقط، وهي الفتاة المتوسطة الجمال التي لا مال ولا اسم لها..!! طال عقد المقارنات حتى تمنيتُ لو أن العالم لم يعرف الانفتاح ولم تخرج علينا سبلٌ للتواصل تنزعُ ألقابَ الاحترام عن الأسماء والأشخاص ليحل محلها توددٌ زائفٌ غيرُ مرغوب فيه. انغمستُ في المقارنة حتى أفسد عليّ واقعُنا المشوه متعة مشاهدتي لحلمي. فأعددتُ كوباً من الشاي المعطر وأعدتُ مشاهدة أجمل مشاهد الفيلم وأخرجت الرواية من كتب أبي وبدأت في قراءتها لأمحو ما أفسده واقعنا. والآن.. أعرف لماذا اقتنى أبي ثلاثة نسخ من نفس الرواية..!! *************** معلومات عن الكاتبة: Jane Austen (16 December 1775 - 18 July 1817) صدر لها روايات: Sense and Sensibility 1811 Pride and Prejudice 1813 Mansfield Park 1814 Emma 1815 Northanger Abbey 1818 Persuasion 1818 وتعتبر أول روايتين لها من روائع الأدب العالمي. الفيلم: إخراج Joe Wright بطولة Keira Knightley في دور إليزابيث، و Matthew Macfadyen في دور مستر دارسي. إنتاج 2005 تم تصوير الفيلم في أماكن خلابة الجمال، وعلى الرغم من اختيار الكاتبة لأسماء أماكن متخيلة لتدور فيها أحداث روايتها مثل بمبرلي (العزبة التي يملكها مستر دراسي) إلا أنه يعتقد أنها Chatsworth House والذي تم تصوير العديد من مشاهد الفيلم فيه وحوله. تريلر الفيلم Matthew Macfadyen يقرأ مقطعاً من الرواية بصوته العذب: