عجيب هو هذا الشعب المصري... أخذ يكافح طوال عقود من أجل المساواة بين الطبقات، لا فرق بين فلاح وصاحب أرض أو عامل وصاحب مصنع... هتف وصرخ وثار لإلغاء الألقاب التي كان يمنحها أفندينا لمن رضي عنهم من الحاشية حتى يعود الباشا لعزبته يسير بأبهة وسط الفلاحين مفتخراً بتشدقهم بنداءه بلقبه المزعوم.. وبعد يوليو 52، صرنا جميعاً أسياداً، لم يعد هناك لا باشاوات ولا باهوات... داعبت كل تلك الأفكار أوتار خاطري وأنا أحاول أن أجد مكاناً لركن سيارتي في شوارع وسط البلد وقت ذروة الزحام وأنا أسمع عبارة واحدة:- "تعالى يا باشا، تعالى يا باشا"! قالها "الكونت دي مونت سايس" بقطعة القماش الصفراء التي يضعها أعلى كتفه ولا يستعملها إطلاقاً، وسيجارته البيضاء التي تتدلى من طرف فمه وقميصه الفضفاض، وسرواله المرفوع، وحذائه المكعوب! اسمه - وياللمفارقة- (سيد)، كلهم اسمهم (سيد)، وكأنه يتعمد تذكيرك بقرارات مجلس قيادة الثورة ويشير أنه يضرب بها عرض الحائط من أجل سواد عيونك. نادى علي في تودد أن اقترب، وكأنه ينتظر قدومي في صبر، وكأنني ضيف عزيز قريب إلى قلبه يستقبلني بكل ترحاب وضيافة "في بيت أبوه"!! ضيافة مدفوعة الأجر طبعاً، فالسيد مانح الألقاب قد تفضل ووافق على منحي لقب باشا في عام 2010 من أجل جنيه أو اثنين أعطيهم له منعاً لمشاكساته ومخافة أن يسحب مني اللقب! كل ما أخذه منه هو دقيقة اثنتين من: "تعالى، تعالى يا باشا، لف العجل ع الآخر، اعدل كله، اعدل كله، بس، سيبها ممورة يا باشا"... لا يهمني كم باشا سلمه الفكة ولن أغوص في حسابات معقدة لأثبت أن السيد مانح الألقاب هذا دخله أعلى من "باشاواته" أنفسهم، كل ما يهمني الآن هو... هو الانصراف. ترجلت من السيارة وأغلقت الباب، فاقترب وربت على سقف السيارة في حنان وكأنها ابنته المقربه ونطق في خشوع بدعوة أو اثنتين مختومتين -وبالطبع- بكلمة "يا باشا" وهو يفرك يديه.. دسست يدي في جيبي، أخرجت جنيهاً معدنياً كان آخر ما في جيبي يوم 24 في الشهر ووضعته في يده فنظر إليه في تقزز كريه وكأنني بصقت في كفه وقال لي: - "إيه ده يا بيه؟" زاد قلقي عندما تقلص لقبي وحُرمت من اللقب الأكبر، ثم فكرت للحظة وسحبت الجنيه من يده وقلت: "ده جنيه كلب ما يليقش بمقام سيادتك يا باشا يا بيه يا خديوي يا افندينا" ثم انصرفت في رشاقة... نظر في يده الفارغة والألقاب تتهاوى على مسامعه والحيرة تملأ عينيه، وتأملني للحظات وأنا أبتعد، ثم هرش رأسه وسرعان ما نسيني تماماً وهتف عندما رأى "باشا" آخر. - : "تعالى يا باشا، تعالى، لف العجل ع الآخر يا باشا، اعدل كله، اعدل كله، بس، سيبها ممورة يا باشا".. نشر المقال لأول مرة في مجلة (بريك) عدد يوليو 2010