صحيح أن العقل البشرى خلق غير قادر على إدراك وتفسير جميع الظواهر التي يتعرض لها، وأن معظم القائمين على نقل الأحداث أو المجريات العالمية يميلون لتقديمها بطابع معين يتوافق مع أجندة وأولويات كل شعب، ولكن - ومع احترامي لكل هذه الحقائق - أظن أن ذكاء طفولتي قد أثبت لي غير هذا. لا أعرف لماذا اعتدت في طفولتي على التفكير والبحث في بعض المواضيع الغريبة التي قد لا تهم معظم الأطفال في مثل عمري وقتها. فمثلا عندما بدأت أمي في التحدث معي عن أعمال الخير والشر والثواب والعقاب والجنة والنار، لم يشغل ذهني إلا فكرة الحياة الأبدية بعد الموت أيا كانت في الجنة أو في النار. فالفكرة نفسها أجدها مرعبة وغير مقبولة. وأقول غير مقبولة لا لاعتراضي على قضاء الله وإختياره، ولكني لا استطيع تخيل الفكرة نفسها. الحياة دون نهاية، دون غاية أو هدف، دون توقيت، دون نمو، ودون توقف. وبعد ليالٍ طويلة قضيتها بمفردي أفكر في اللانهاية، وبعد أن تحول التفكير إلى احباط، إلى أن وصل إلى يأس وغضب قد يتحول في بعض الأحيان لبكاء مخيف، تحدثت معي ابنة عمتي التي تكبرني سنا ب 15 عاما تقريبا، والتي مثلت في ذلك الوقت (صوت العقل)، عن أن العقل البشري لا يستطيع تخيل او ادراك عالم آخر لا يعيش فيه، وأن هذه هي حدود عقلي وعقل أي بني آدم، وخوفي الآن ليس من الحياة الأبدية نفسها، بل من عدم قدرتي على تخيلها. وأقنعتني أن الله سوف يعطيني عقلا آخر بعد البعث أستطيع أن ادرك به ظواهر الآخرة. وكانت هذه الفكرة هي بداية رحلة مواجهتي لحقائق الواقع المؤلم، والتي تبعتها تحول تفكيري من الحياة الأخرى الغامضة التي قد لا أستطيع استيعابها، إلى الحالية المرئية، والتي من المفترض أن تكون قابلة للإدراك والتفسير. ولكن الغريب أن السيناريو الذي حدث في المرة الأولى ظل يتكرر في كل مناقشة أو صراع مع أي ظاهرة جديدة أواجهها. - إنتفاضة فلسطين، مشاهد دموية لأطفال وشعب كامل يباد بأيدي أشكال غريبة من البشر تشبه الكائنات الفضائية التي أراها في الأفلام الأمريكية، أغانٍ عربية تثير قشعريرة غريبة في جسدي، كل هذا دفعني للتوجه لأبي بسؤال قد يبدو ساذجا "هو إحنا ليه ساكتين على كل ده يا بابا؟" ليبدأ أبي في شرح الكثير من الحقائق والأحداث المرتبطة بالموضوع في محاولة لتهوين الأمر مستخدما بعض العبارات الشهيرة مثل " إحنا احسن جنود الأرض" أو " الحرب دي قرار مش سهل على أي رئيس، ده مصير شعب" أو يقنعني بأننا في انتظار القائد المناسب الذي يمتلك الذكاء والشجاعة اللازمة لينتزع كرامتنا وفقا ل (الإطار) المناسب للسياسة الدولية، ليحفظ لي حالة (السكون) المألوفة. - في طفولتي كنت أخاف من مدرستي. ماذا لو هذه المدرسة (وهي صاحبة الكلمة في الفصل) تميل لصديقتي أكثر مني؟؟ كيف سأتصرف في هذه الحالة؟ كنت أخاف الظلام والغموض، أخاف من الشخص الغريب، أخاف من سوء الفهم، أخاف أن تخذلني احدى صديقاتي عندما أطلب منها شهادة الحق أمام أي شخص مسئول. أخاف اجتماع الفتيات (الشريرات) معا في المدرسة، فالإجتماع قوة حتى وإن كان على الشر. ورغم كل مخاوفى... أجد لها أحياناً كثيرة مسكنات تهدأ من تلك المخاوف التى تجتاحنى منذ كنت صغيرة. وبعد قضاء سنوات في السكون، حاولت أن اكتسب فيها طريقة تفكير الكبار، التي توفر لهم هذه الحالة من الهدوء والطمأنينة المرعبة، وبعد التركيز قليلا أو كثيرا في بعض الأحيان في الأحداث السياسية أو غير السياسية، اشاهد الآن كوابيس طفولتي تتحقق أمامي بصور وأشكال لم أتخيل وجودها، وأن التطبيع مع الواقع أو ما يسميه البعض (الواقعية) هو ما أعتبره (أحلام) تنتج عن طرق التنويم المغناطيسي التي نجيدها ونمارسها بشكل يومي حتى دون أن نشعر بذلك. فأنا لا احب السكون، وأكره الضحك ع الدقون، ولا أعرف لماذا نقنع أنفسنا بوجود سياسات ودوافع غامضة وراء أي حدث خاصة وإن كان (شرير)، تبرر لنا السكوت والسلبية. وفي النهاية، أنا لا أقصد بكل هذا أن أدعو القاريء للتشاؤم أو التشكيك في أي معتقدات، بل للتفكير والمواجهة. أتمنى أن أكون أنا ومن حولي على درجة عالية من (الوعي) بما هو موجود، ودرجة أعلى من (التأثير) عليه، لنتعامل مع الواقع على أساس (الواقع) دون اكتساب (واقعية) التفكير.