في فيلم “السقوط” عن الأيام الأخيرة للرايخ، وداخل أحد المخابئ، يجلس هتلر وزعماء وقيادات الحزب النازي قبل أيام من دخول الحلفاء برلين، ووسط كل الحطام الذي صارت إليه ألمانيا، تحدث أحد قيادات الجيش الألماني مع جوبلز، وزير الدعاية السياسية النازي ، عن المسؤولية الأخلاقية والتاريخية للنازيين وما تسببوا فيه من معاناة للشعب الألماني، ليرد جوبلز ببساطة: “قد يكون هذا مفاجأة لك، لكن أنا ليس لدي أي أوهام حول هذا الأمر، الناس جلبوا هذا لأنفسهم، نحن لم نجبرهم على شيء، لقد منحونا تفويضا وهم الآن يدفعون ثمنه”. عبارة “جوبلز” أعادها جنرال إسرائيل السفيه السيسي، بعد انقلاب الثلاثين من يونيو 2013، عندما اراد مخرجا للغدر بالرئيس المنتخب محمد مرسي، فاصطنع حيلة “التفويض” وطالب الشعب بالنزول الى الشارع ومنحه تفويض لمواجهة الإرهاب المحتمل، وذات السيناريو يحاول أعادته الفريق محمد حمدان دقلو المعروف ب”حميدتي” قائد قوات الدعم السريع والرجل الثاني في مجلس الانقلاب العسكري. سفاح دارفور حرص حميدتي على أن يرتدي عباءة المواطن المُنحاز لمطالب الشعب، علَّ حميدتي أراد بهذه التصريحات أن يُضلل الشعب السوداني عن حقيقة أنه أحد أهم أركان النظام المخلوع، ويده ملطخةٌ بدماء الكثيرين، وسجله مليء بانتهاكات حقوق الإنسان. حميدتي الذي ترك المدرسة في عمر الخامسة عشرة لم ينتسب قط إلى الجيش السوداني، بل عمل في تجارة الإبل وحماية القوافل بين تشاد وليبيا ومصر، حيث شكل مليشيا تحولت، في ما بعد، إلى ما تعرف بمليشيا الجنجويد التي استعان بها الرئيس المخلوع عمر البشير في حرب إقليم دارفور، التي قالت تقارير إنه ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثمائة ألف سوداني من أبناء الإقليم وشردت الملايين. وضع اسم حميدتي على لائحة المطلوبين للعدالة الدولية، لارتكابه جرائم حرب ضد الإنسانية. وكان حميدتي قد جمع ثروة كبيرة، خصوصا بعد استيلائه على مناجم ذهب في دارفور، كافأه البشير بأن أعطاه رتبة فريق أول، وضم مليشيا الجنجويد إلى القوات المسلحة، تحت اسم قوات الدعم السريع. وكان حميدتي قد قال خلال تجمع شعبي شمالي العاصمة الخرطوم “نريد تشكيل حكومة كفاءات وتكنوقراط”، مؤكدا أن هذا الحشد الجماهيري بمثابة تفويض شعبي، وأضاف “لا نريد الاستمرار في السلطة، ونفهم اللعبة السياسية جيدا من خلال دعوتهم إلى فترة انتقالية لأربع سنوات لحكم السودان من دون انتخابات”، في إشارة إلى اقتراح سابق لقوى الحرية والتغيير. وتابع حميدتي أن “صورتنا مشوهة هذه الأيام، لكن هذه الحشود البشرية في منطقة قرّي شمالي الخرطوم تؤكد أننا نسير في الطريق الصحيح ”، وأكد أن المجلس العسكري يسعى إلى التفاوض لتنفيذ رغبات الشعب، مشيرا إلى أنه سيتواصل مع كل من أسهموا في الثورة الشعبية، وليس من حق أي جهة أن تحكم السودان إلا بموجب تفويض . الأميّ البلطجي وأدركت الخرطوم أخيرا نظرة الذئب الخفية في عيني زعيم المليشيا الذي بدأ يفرض نفسه على رأس البلاد بعد سنوات عدة من الاستعداد كما يبدو، ومع أن أهل الخرطوم لم يكونوا يرون في حميدتي سوى بدوي ينام في الصحراء مع رفاقه فإن هذا الجنرال كان يعيش بينهم منذ سنوات عدة في منزله الكبير جنوبالخرطوم، وهو غني يملك الملايين ويزور عواصم الخليج، حيث لديه حلفاؤه. وقد أصبح حميدتي هو وشقيقه من كبار مصدري الذهب في السودان عن طريق التهريب غالبا، يقول الكاتب الفلسطيني ياسر الزعاترة :” “حميدتي” يقول لمدير مكتب “نيويورك تايمز” في القاهرة (ديكلين والش) إنه يرى أن وصوله للسلطة أمر لا بد منه، وإلا فستضيع البلاد.الشعب السوداني المثقف يستحق رئيسا غير هذا الأميّ البلطجي الذي ينبغي أن يحاكم أمام “محكمة الجنايات الدولية”.مع كل الاحترام لأميين يجسّدون القيم الجميلة”. ووجد المجلس العسكري السوداني نفسه متورطا بعد تكذيب القضاء ادعاءاته بالحصول على رأي قانوني من رئيس القضاء والنائب العام بفض اعتصام القيادة العامة للجيش في الثالث من الشهر الجاري الذي راح ضحيته أكثر من 100 شخص. ووضع الناطق الرسمي باسم المجلس الفريق شمس الدين كباشي رئيس القضاء والنائب العام في دائرة الاتهام لأول مرة بعد إعلانه موافقتهما على فض الاعتصام القيادة حينما طلب منهما المشورة القانونية، لكن ما لبثت أن عادت التهمة إلى المجلس “الذي كان عليه الاكتفاء بالاعتذار للشعب السوداني بعد اعترافه بالمذبحة”، كما يقول قانونيون. ويكافح الشعب السوداني على المضي في ثورته لاستئصال بقايا النظام الذي شكّله عمر البشير ثلاثين عاما، تلك الثورة التي أدهشت العالم بصبرها واستمراريتها وحفاظها على الطابع السلمي، تتهيأ القوى المضادة للثورة للانقضاض على السودانيين، في اللحظة المواتية، مدعومة بقوى الثورة المضادة الإقليمية التي يمثلها مثلث وليي عهد السعودية وأبوظبي والسفيه السيسي، وقد وجد هذا المثلث ضالته الكبرى في محمد حمدان دقلو ليكون العصا الغليظة بيده، لقهر ثورة الشعب السوداني، فللرجل تاريخ عريق في المجازر وفي سفك الدماء.