منذ أول يوم للانقلاب الدموى، سمع العالم كله اسم (كرداسة)، تلك القرية العريقة التى تقع غرب ترعة المريوطية بالجيزة، والتى كشفت بطش الانقلابيين وإرهابهم، واستهانتهم بكل قيم الديمقراطية، بل الإنسانية. يخلد التاريخ اسم هذه القرية فى مقاومة الطغاة الأغبياء، فهى التى تصدت لقوات الغادر صاحب انقلاب 1952، الذى انتقم من أهلها فيما بعد انتقام الصهاينة من المسلمين، ورغم ذلك لم ينحن أبناء البلدة لظالم، وكانوا أول من قال لا للانقلابيين المخرِّبين، وأجمعوا على ألا بديل للشرعية التى يمثلها الدكتور المنتخب محمد مرسى. زرت كرداسة أول مرة عام 1989، واختلطت بالكثير من أبنائها، وصاحبت بطليها التاريخيين: جابر رزق، رحمه الله، وسيد نزيلى، أطال الله فى عمره، وقد تعلمت منهما الكثير والكثير، فالأول أستاذى فى الصحافة، والثانى أستاذى فى الدعوة. فما رأيت أطيب ولا أكرم من أهلها، وأحسبهم ينتمون إلى قبائل عربية أصيلة عاشت فى الصحراء على أطراف الجيزة، فلما بدأ التوطين استقرت فى هذه البلدة وغيرها، فى خط جغرافى ممتد حتى أقاصى حدود محافظة البحيرة الشمالية، فجميع هذه البلدات تجمعها المروءة والنجدة، والكرم وعدم القبول بالضيم، كما تجمعها اللهجة الواحدة التى تتشابه إلى حد كبير مع لهجة أهالى البحيرة ووادى النطرون، ومن هذه القرى الأبية: كفر غطاطى، ناهيا، المنصورية، كفر حكيم، منشية رضوان، برقاش، نكلا، وغيرها، وجميعها تعادى الأنظمة الفاسدة الظالمة، ويحصل التيار الإسلامى فيها على نسب عالية للغاية فى الانتخابات. تعرضت كرداسة لبطش العسكر العلمانيين عام 1965، لأنها قالت لا لعبد الناصر وعصابته، فكتب عليها الشقاء حتى هلك، ووصم أبناؤها بالتطرف والإرهاب، ومُنعوا من دخول الشرطة والجيش ومُنعوا من التعيين بالجامعات وباقى الأماكن (الحساسة!!).. وكان لهذا الغدر من جانب عبد الناصر قصة: كان من بين الأسماء التى وردت فى تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965، سيد نزيلى، أحد أبناء القرية. وفى يوم 21 أغسطس 1965 توجهت قوة من المباحث الجنائية العسكرية للقبض عليه، ولم يكن قد مر على زفافه سوى بضعة أيام. وعندما اقتحمت هذه القوة منزل نزيلى وقامت بقلب محتوياته، لم يكن بالمنزل سوى عروسه وشقيقه، أما هو فلم يكن موجودًا.. وقد ظن شقيقه (عبد الحميد) أن القوة مجموعة من اللصوص؛ ذلك أنهم لم يعرِّفوه هويتهم، بالإضافة إلى أنهم كانوا يستولون على المال والمصوغات ويضعونها فى جيوبهم، فخرج إلى الشرفة مستغيثًا بأهل قريته، واجتمع أهالى القرية على استغاثة عبد الحميد وعروس شقيقه، ظانين كذلك أن القوة عصابة من اللصوص، فنشبت معركة رهيبة، بين أهالى كرداسة من ناحية وأفراد المباحث العسكرية من ناحية أخرى، حتى سقط أحد أفراد مجموعة المباحث الثمانية قتيلا، أما السبعة الباقون فقد سارعوا بالهرب من القرية. وبعد ساعة، تحركت المصفحات وآلاف الجنود، لتقع على القرية أكبر حملة تأديبية لم ير العالم مثلها.. لقد استمر دوى الرصاص بالقرية طوال الليل، وسط صرخات الجميع، وأنين النساء والأطفال.. وتم تفتيش منازل القرية جميعها، وسرقة كل قرش فى كل بيت، ثم تم جمع الرجال وربطوهم بالحبال، واقتادوهم إلى اللوريات لتنقلهم إلى السجن الحربى. وفى فناء السجن، استعرض وزير الحربية طوابير الرجال الذين انهالت عليهم الكرابيج حتى علا صراخهم.. ثم أُمروا بالركوع والسجود للقائد.. وأُمروا أن تمتطى كل امرأة ظهر زوجها أو أبيها أو جارها، وأن يحبو الرجال، والنساء فوق ظهورهم. ثم صفّوا الرجال على هيئة دائرة وأمروا كل واحد منهم أن يصفع جاره ويبصق فى وجهه. لقد بقى أهالى القرية داخل السجن الحربى وعلى هذا البرنامج من التعذيب لمدة تسعة وعشرين يومًا، أما القرية نفسها فقد احتلتها قوات المباحث العسكرية الجنائية وفرضت حظر تجول على من بقى فيها، حتى المواشى، وأغلقوا المساجد ومنعوا الصلوات. وتصادف أن مات أحد شيوخ القرية فرفضوا دفنه لمدة ثلاثة أيام حتى تعفنت جثته، ولما أمروا بدفنه لم يسمحوا إلا لأربعة رجال بحمل النعش والتوجه إلى المقابر لإتمام عملية الدفن. واليوم يعيد التاريخ نفسه، فيعاود العسكر اقتحام القرية وقرى أخرى مجاورة، كأنهم فى حرب مع الصهاينة؛ من حيث الاستعدادات والإمكانات، وما صاحب ذلك من حرب نفسية وتحريض إعلامى، تمامًا كما يحدث فى أجواء الحروب، وقد صوروا للدنيا أن كرداسة مخزن كبير للأسلحة والذخائر وأن متطرفيها سوف يواجهون قوات الشرطة والجيش بهذا الكم الكبير من العتاد. فلما وقع الاقتحام غير الإنسانى الذى شاهدنا عاره على الشاشات والذى كان هدفه إرهاب كل من يفكر فى معارضة الانقلابيين، لم ير الناس أسلحة ولا عتادًا ولا متطرفين، بل وجدوا شبابًا متعلمًا محترمًا يتم جره بأيدى شياطين الإنس ممن امتلأت قلوبهم قسوة وفظاظة، يساعدهم بلطجية يحملون أسلحة الدولة (الميرى). كما رأوا تمثيلية مقتل مساعد مدير الأمن، وتأكدوا أن قتل الضباط والجنود فى كرداسة مطلع شهر يوليو كان بأيدى الشرطة و(الجبهة السيادية) من أجل اتهام أهالى كرداسة بالإرهاب ومن ثم التنكيل بهم وجعلهم عبرة لباقى مدن وقرى مصر الرافضة للانقلاب. غير أن رد هؤلاء الأكرمين كان سريعًا، مثلما فعل إخوانهم فى (دلجا) الصعيد؛ إذ نظموا مسيرات حاشدة طافت القرية، معلنة تحديهم لهؤلاء الأغبياء، الذين انسحبوا إلى مشارف القرية وقد أعلنوا أنهم انتصروا على (الأعداء!!)، وهم فى الحقيقة حازوا عار الدهر وخيبة السابقين واللاحقين. إننا - بعد سقطاتهم المتتالية - واثقون أنهم سيندحرون، وسيزول الطغاة، وستبقى كرداسة ودلجا، بل مصر كلها قوية أبية لا تهزمها قوة غاشمة، مهما تدججت بالأسلحة، ومهما ناصرها مئات الإعلاميين الشواذ الكاذبين.