اعتمدت دولة الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي، في القيام بمسئولياتها التي تخص المواطن من بناء مستشفيات ومدارس وتوصيل المرافق للقرى من شبكات مياه وصرف صحي، وتطوير المساكن العشوائية، على تبرعات المواطنين، حتى إن عشرات التقارير المحلية والأجنبية، رصدت هذه الظاهرة على فضائيات الانقلاب، لدرجة وصلت لحد المتاجرة بهذه الإعلانات، واستقدام فنانين ومطربين ولاعبي كرة قدم مشهورين، من أجل المساهمة في تنفيذ هذه الإعلانات. إلا أن نظام عبد الفتاح السيسي وجد في تبرعات المصريين التي لا تنتهي، خاصة مع خديعتهم على مدار عشرين عاما بمستشفى مثل مستشفى 57357، وجد ضالته، في أن الثروات التي تأتي عن طريق التبرع والتي وصلت بالمليارات، يجب السيطرة عليها لصالح نظام الانقلاب، وهو ما عمل عليه ونجح ففيه بالفعل، حتى إن الإعلانات التي كان يتم تصويرها مجانا أو تبرعا بمشاركة الفنانين ولاعبي الكرة، أصبحت مدفوعة الأجر، بل تسابق الفنانون ولاعبو الكرة حينما عرفوا أن هذه الإعلانات تجلب الملايين لهم، فباتت تحت أعينهم من أجل التكسب من ورائها. وحاصرت إعلانات الفقر والتبرع ولو بجنيه شاشات التلفزيون، وباتت تحتل مساحة واسعة من الدقائق على الشاشات في الآونة الأخيرة، لتحث المشاهد على التبرع، وتناديه للمشاركة في عمل الخير، وتحفزه للمساهمة في حل مشكلات الفقر، وتخفيف معاناة المرضى. بل إن هذه الإعلانات أصبحت ضمن إطار أجهزة الدولة السيادية، حتى إنه حظر النشر في قضايا النصب فيها، مثلما ما حدث مع مستشفى 57357 حينما تم التحقيق في عملية النصب التي تتم خلال التبرع لهذه المستشفى التي لم تكتف على مدار عشرين عاما كاملا من التبرعات التي تأتيها ليل نهار، وحينما تم الحديث حولها أصدر نائب عام الانقلاب قرارا بحظر النشر في القضية، بعد إثارة الجدل فيها. وتحول شهر رمضان من شهر الصيام إلى شهر التبرعات والإعلانات، بعدما تسابقت أجهزة الانقلاب في اختلاق العشرات من المشروعات الوهمية تحت مسمى عمل الخير للسيطرة على أموال المصريين. فقد بلغت نسبة الإنفاق على الإعلانات في مصر رمضان عام 2017 ما يقرب من 800 مليون جنيه وفقا لتقدير محمد السعدي الشريك المؤسس لشركة أنيميشن للإعلانات “سعدي جوهر” التي نفّذت كثيرا من الإعلانات الخيرية والتجارية، وذلك في تصريحات صحفية سابقة. قصة النصب في 57 وتحضر إعلانات مستشفى 57357 ومستشفى 500 500 كعلامات فارقة في حضور إعلانات التبرعات، والتي تشهد على التغير الحادث في المشهد الإعلاني وما يعكسه من مؤشرات على التحولات السياسية والاجتماعية في مصر منذ السبعينيات وحتى الآن. فكيف ظهرت فكرة التبرع لمستشفى 57357 ومن ثم مستشفى 500 500؟ وأثرت الإعلانات التي تقدمها دولة الانقلاب للحض على التبرع، على مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، والتي بدأت فكرتها في ستينيات القرن العشرين حينما ازداد عدد المرضى المصابين بالسرطان، وخاصة سرطان المثانة نتيجة للإصابة بالبلهارسيا المنتشرة في مصر آنذاك، فاقترح الدكتور لطفي أبو النصر إنشاء المعهد القومي للأورام، وتحمّلت الدولة تكاليف الإنشاء، وافتُتح المعهد في عام 1969 واستمر في أداء مهامه حتى اليوم. وبتزايد الطلب على المستشفيات الحكومية، وقلة جودة الخدمة المُقدمة، اقترحت السيدة علا غبور زوجة رجل الأعمال رؤوف غبور “رئيس مجلس إدارة شركة جي بي غبور أوتو” إنشاء مستشفى لرعاية الأطفال المرضى بالسرطان وذلك بالتنسيق مع مجموعة من الأطباء العاملين بالمعهد القومي للأورام منهم د. شريف أبو النجا رئيس مجلس إدارة مستشفى 57357 الحالي، فقد رأوا أن تدخل الدولة لإنقاذ المرضى وكفالة الحق في العلاج لم يعد مجديا، وأحسنوا الاستفادة من شبكة علاقاتهم ببعض رجال الأعمال من خلال جمعية أصدقاء معهد الأورام لتولي عملية جمع التبرعات لبناء مستشفى 57357 لتُفتتح في يوليو 2007 مقدمة نموذجا لمستشفى عالمي قام تأسيسه بالكامل على التبرعات فقط. وبعد عشر سنوات من افتتاح 57357 تجدد النداء من داخل المعهد القومي للأورام مرة أخرى من خلال إعلانات التلفاز للدعوة للتبرع لإنشاء صرح آخر لمواجهة مرض السرطان ويستكمل المسيرة وهو مستشفى 500 500 الذي يُعرّف نفسه بالمعهد القومي للأورام الجديد. وتحولت الدولة من فاعل رئيسي في تحمل علاج المرضى وتوفير الخدمات العامة، حيث قامت ببناء معهد الأورام، ثم انسحبت الدولة تدريجيا من دورها الاجتماعي، وبرز فاعلون آخرون على الساحة سواء كانوا أفرادا أو جمعيات أهلية أو جمعيات رجال الأعمال، بعد بناء صرح طبي متكامل كمستشفى 57357 معتمد كليا على أموال التبرعات، ومن بعده مستشفى 500 500 الذي ينتهج مسار 57357 نفسه في التعويل على التبرعات ليصبح أكبر مستشفى عالمي لعلاج السرطان بالمجان. وانخفضت نسبة التخصيص للقطاع الصحي من الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي 2017-2018 إلى 1.34% أي أقل من نصف الاستحقاق الدستوري البالغ 3%، ولم يقتصر على قطاع الصحة فقط، وإنما برز في كثير من القطاعات الخدمية الأخرى، لتجد نفسك أمام إعلانات لا تخلو من مطالبتك بالتبرع ودفع زكاتك لمساعدة الفقراء وبناء المستشفيات وتوصيل المياه والخدمات للقرى الفقيرة، ومقابلها تزداد دعوات التبرعات، فقد وصلت التبرعات من خلال رسائل الهاتف إلى قرابة 600 ألف جنيه في 2012، وتضاعفت لتصل إلى قرابة 4 ملايين جنيه في 2013، ثم ارتفعت لما يزيد على 11 مليون جنيه في 2014، وبلغ إجمالي ما تم جمعه من تبرعات خلال رمضان 2017 30 مليار جنيه وفقا للأرقام الرسمية.