اهتمَّ الإخوان المسلمون بقضية الفهم ووضعوها أساسًا ضروريًّا لمن يريد أن يبنى أمَّة أو يشيد صرحًا قويًّا قائمًا على أساس متين لهذا الدين، كما وضعه صلى الله عليه وسلم من أول يوم كانت خطته معروفة وكانت أهدافه واضحة، ووضع كل لبنة فى مكانها، وشيَّد الأساس على تقوى من الله ورضوان، فالعقيدة الربَّانية هى اللبنة الأولى، والطاعة والعمل بمقتضاها، والإخلاص لها، والجهاد فى سبيلها، والتَّضْحِية من أجلها، وصرح الأُخُوَّة المتين، والثقة والتجرد كلها لَبِنَات فى هذا النظام الرَّبَّانى الخالد. ولمَّا أراد الإمام البَنَّا رحمه الله أن يستأنف العمل بعد سقوط الخلافة كان من تأييد الله تعالى له ومن توفيقه أن هداه وأَلْهَمَه من أين يبدأ وفى أى طريق يسير، فكانت العودة هنا إلى هذه الأصول، وبدأها بقضية طالما أرهقت العاملين لهذا الدِّين وهى قِلَّة فهمها أحيانًا، وهى القضية الأساسية، وهى قضية التلقى الصحيح لهذا الدين، والفهم الصحيح له، وباب العمل المؤدى إلى النَّجاح، وغير ذلك هو الضرب فى التيه والبعد عن الهدف وضياع الجهود فى الهواء. ويؤكد الإمام البَنَّا هذه الحقائق، فيقول: "ضرورة الفهم الصحيح، والفهم الصحيح يعين على سلامة العمل وحسن التطبيق، ويَقِى صاحبه من العثرات". يقول عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"، والمخلص العامل الذى لا يحسن الفهم الصحيح، ولا يُنْزِل الأمور منازلها، قد يضلُّ ضلالاً بعيدًا. لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناسٍ بالضلال وأنهم شرُّ الخلق، مع كثرة أعمالهم من الصلاة والصيام والتلاوة، فقال صلى الله عليه وسلم فى الخوارج ورئيسهم لما قال للرسول عند تقسيم الغنائم: (اعدل يا محمد)، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَك فمن يعدل إن لم أعدل"، فلما ولَّى الرجل قال صلى الله عليه وسلم: "يخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السَّهْم من الرمية، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم"، وسبب الضلال هو آفة الفهم المُعْوَجّ والعقيم، يقول الإمام ابن تيمية عن الخوارج: "إنهم مع كثرة صومهم وصلاتهم وقراءتهم أُخْرِجوا عن السُّنَّة والجماعة، وهم قومٌ لهم عبادةٌ وورع وزهد، ولكن بغير علم". نعم إن العبرة فى التفضيل ليست بكثرة المعارف والمحفوظات والأعمال، وإنما بجودة الفقه، وصحة الفهم، وسلامة الإدراك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان من ألفِ عابد" رواه الترمذى. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "لموت ألف عابدٍ قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ الله امرءًا سمع مِنَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه". وقال صلى الله عليه وسلم: "من يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهه فى الدين، وإنما أنا قاسم والله معط". ويقول الإمام ابن القيِّم: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التى أنعم بها على عبده، بل ما أعطى عبد عطاءً بعد الإسلام، أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المُنْعَم عليهم الذين حسن قصدهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم فى كل صلاة، وصحة الفهم نورٌ يقذفه الله فى قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغنى والرشاد...". لا بد أن ندرك تمامًا شيوخًا وشبابًا أن الانطلاق والعمل للإسلام على غير فهمٍ صحيح وعلى غير مقاييس دقيقة يضرُّ ولا ينفع. إن الذين يخدمون هذا الدين يجب عليهم وجوبًا عينيًّا أن يتجرَّدوا عن كل غرض، وأن يبعدوا عن أى طريق إلا الطريق الوحيد المستقيم الذى دلَّنا الحق عليه، وسار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ومرَّت بالأمة غفوة فألهم الله عز وجل من جاء لإعادة الأمة إليه والسَّير عليه، وما نبَّهنا الله تعالى إليه فقال: "وأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام: 153). إن الإمام البَنَّا عليه الرضوان تحرَّى كل ما نقول، فوفَّقه الله سبحانه إلى التحرِّى، فأخذ بالإسلام كله من الشَّهَادتين إلى النِّهَاية، وعمل بكل جانب على مقتضاه، وحدَّد الوسائل وبيَّن الأهداف، ورسم الطريق، ووضع الأساس، وشَيَّد البناء، وهو الآن فى حاجة إلى أن نقيمه لا كلامًا ولا خطبًا ولا فى كتابة كتاب أو عمل رسائل، وإن كان كل هذا مطلوبًا، ولكن الأولى من ذلك أن يظهر ويتأكد فى حياة الناس فى صور واقعية يراها الناس بأعينهم ويصدقونها بواقعهم، ويقتنعون بإخلاص القائمين عليه، هذا الذى عرضناه من أعمال وتطبيقات وتنفيذات وجهاد فى تاريخ الإخوان؛ عملت السُّجون والمعتقلات والتعذيب بأجهزة الشرِّ المُتعمَّدَة التى تصُدُّ عن سبيل الله -وما زالت-؛ عملت على إبعاد هذه الأخلاق عن أصحابها أو التشكيك فيها كذبًا وافتراءً، وتصوير الأمر على غير حقيقته، وما علينا إلا أن نُبْطِلَ سحرهم، ونكشف عن ضلالهم، ويؤمئذ سيأتى نصر الله تعالى "أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة: 214). والله أكبر ولله الحمد