هذا المقال مُهِم جدًّا؛ لأنه يكشف عن أمور لا بد أن يعيها أصحاب الدعوات، ومفادها أن الداعية إذا كان قوىّ الإيمان ثابت اليقين حريصًا على الجهاد فى سبيل الله تعالى فقد بدأ الطريق بحقٍّ، وإنه لمنصور إن شاء الله تعالى، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)، والمؤمنون لا يشكُّون أبدًا فى أن طريقهم هو الصحيح، وأن غايتهم هو الله سبحانه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو إمامهم وزعيمهم، وهذا الفهم يعينهم على مواجهة الباطل مهما كان، وعلى الوقوف فى وجه الظالمين الذين أعمتهم الشياطين، ومهما كانت كثرتهم فالمؤمنون لا يعبئون بهم، ولا يخشون أحدًا إلا الله عز وجل، أما إذا كان الإنسان ضعيف الإيمان مترددًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فذلك هو الخُسْران المبين. وتحت عنوان بين الصورة والحقيقة كتب الأستاذ الندوى يقول: "إن كل شىء له صورة وحقيقة، وبينهما فرقٌ كبير برغم الشَّبه العظيم، وضرب مثلا لذلك بالثمار المصنوعة التى يراها الناظر كأنها تُفَّاح وعنب وبرتقال فى لونها وشكلها، وهى لا طعم لها ولا رائحة؛ لأنها للزينة فقط، وأشار إلى السباع والأسود والأفيال فى المتاحف، لكنها جثث هامدة لا حراك فيها، وأجساد ميتة محشوَّة بالليف والقطن" (كتاب إلى الإسلام من جديد). إن الصورة لا يمكن أبدًا أن تقوم مقام الحقيقة أو تنوب عنها، كما لا يمكنها أن تُمثِّل دور الحقيقة فى الحياة، وأقل حقيقة متواضعة أقوى من الصورة الضخمة العظيمة، وإن طفلا يزور المتحف يستطيع بلمسة منه أن يُسْقِط الأسد الضخم المحشو بالقطن ويضحك عليه. والله عز وجل خلق الأشياء على حقيقتها، ولنا أن نتأمل أسلافنا رضوان الله عليهم جميعًا، فقد عاشوا حقائق الإسلام الثابتة، أما أكثر المسلمين اليوم فيعيشون شكليات وصورًا؛ ولذلك فالفرق شاسعٌ بيننا وبينهم، لقد كانت كلمات أسلافنا حقائق، وحياتهم حقائق، وصلاتهم حقيقة، وحركتهم كلها لا تَكلُّف فيها. وهذا هو الصحابى خُبَيب -رضى الله عنه- يرمونه فى مكة على خشبة ويُمَزِّقون جسمه وهو ثابت، فقالوا له: أتحب أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فيجزع ويقول: "والله لا أحبّ أن يفدينى بشوكة يُشاكها فى قدمه"، إن الذى ثبَّت هذا الصحابى الجليل فى هذا الموقف هو حقيقة الإسلام، وحقيقة الجزاء والجنة والمقام الصدق عند مَلِيكٍ مُقْتَدر، وهذا هو الذى جعله يتحمَّل آلام الجسد الفانى والحياة الزائلة العابرة؛ لما عند الله من خير، وما عند الله خيرٌ للأبرار. وهاجر سيدنا صهيب -رضى الله عنه- فلمّا خرج من مكة اعترضه جماعة من مشركيها، وقالوا: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذى بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك أبدًا، وهناك كانت المعركة بين حقيقة الإسلام، وقيمة المال، وانتصرت فى نفس صهيب حقيقة الإسلام ورجحت كفتها، فقال لهم: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا: نعم، قال: "فإنى جعلت لكم كل مالى" (سيرة ابن هشام ج2)، وهكذا انطلق صهيب بدينه تاركًا ماله فرحًا مسرورًا، كأنه لم يفقد شيئًا ولم يخسر شيئًا. لقد عاش أسلافنا حقائق الإسلام الكبرى، ولولا ذلك ما استطاعوا أن يهاجروا أو يجاهدوا، ولا أن يتحملوا تكاليف هذه الدعوة من صبر ومصابرة ومرابطة. وحين يطول الأمد ويصبح النَّصر بعيد المدى -كما يُخَيَّل للإنسان- تظهر الأمور فى غير مكانها الصحيح، وهذا يؤدى إلى اهتزاز الإنسان، وعدم قدرته على التوازن والثبات على الطريق، والاستمرار فى أداء دوره الذى كلَّفه الله به. والقرآن الكريم حرص على معالجة هذه الجوانب فى حياة المسلمين؛ حتى لا تختلط الأمور عليهم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ والصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153). ذلك أن العبادة حين تنبثق من عقيدة التوحيد تصبح رباطًا قويًّا لا تؤثر عليه أزمات؛ لأن الإيمان هنا حقيقة ثابتة ينبثق من القيم العليا، مثلها كمثل الذهب الأصيل لا يصدأ أبدًا، ولا تزيده الشَّدائد إلا جلاءً وبهاء. وصاحب الدعوة الحق لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لأمته، وهو رجل عاملٌ ومكافحٌ وخادم أمين لإسلامه وأهله ووطنه، وكل ذلك يحتاج إلى صبر وجهاد لنفسه، ومجاهدة جادة لأهوائه ورغباته، وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69). ولقد تكرَّر ذكر هذه المعانى كثيرًا فى القرآن، ذلك أن الحق سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذى تقتضيه طبيعة القيام بهذا الدور على ظهر الأرض، بين شتَّى الصراعات والعقبات، فلا بد من اليقظة والصبر فى هذا كله.. لا بد من الصبر على القيام بالطاعات، ولا بد من الصبر فى اجتناب المعاصى، والصبر على الكيد بشتَّى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بُعْد الشُّقَّة، والصبر على قلَّة النَّصير، وعلى طول الطريق. وحين يطول الأمد وتكثر العقبات، قد يضعف المسلم -إذا لم يكن هناك زاد ومدد- ومن ثَمَّ يقرن الإسلام الصلاة مع الصبر؛ فهى المعين الدائم، والزَّاد الذى يروى القلب، ويُقوِّى الأمل، ويبعث على الثقة والطمأنينة واليقين. إنه لا بد للإنسان الضعيف من الارتكاز على قوة تحميه يستمدّ منها العون، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة، وإغراء المطامع، وحينما يطول به الطريق، وتبعد به الشُّقَّة فى هذا العمر المحدود، ثم ينظر حوله، فإذا هو لم يبلغ شيئًا، وقد أوشك المغيب، وشمس العمر تميل للغروب، وما زال الشرُّ نافشًا، والخير ضاويًا، والإشعاع فى الأفق، ولا معلم فى الطريق. وهنا يكون الاعتصام والاستمساك بالحق، والاعتداد به: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِى إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الزخرف: 43)، وتأمل كيف يدعونا سبحانه إلى الاستمساك بالحق، والإشارة اللطيفة بأن ذلك سبيل الإصلاح وطريق المصلحين: {الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ} (الأعراف: 170)، فالاستمساك اعتزاز بالحق وتعشق لهفوق كل عرضٍ وجاه: {النَّبِى أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6)، وإن أروع كلمة فى التاريخ قالها سيِّد الدعاة صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى العظيم عندما أراد عمه أن يخفف من قوة استمساكه بدعوته، قال عليه الصلاة والسلام: "والله لو وضعوا الشَّمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، وهنا تبدو قيمة الصِّلة بالحق تبارك وتعالى القوى العزيز المهيمن مالك الملك، ومُدبِّر الأمر سبحانه. وهناك أخطار يجب أن يتنبَّه لها المسلمون، أخطار تجتاح الأمة كلها فتحرمها من ميراثها الأصيل، وتشغلها بتوافه الأمور، وتحول بينها وبين خالقها سبحانه وتعالى، وتقطع صلتها بتاريخها وماضيها، ومنها: 1 - موجة النَّهم الشديد بالدنيا، وتحصيلها من أى طريق وبأى سبيل، موجة تنسى المسلم كل القيم الدينية والخلقية، ويمكن أن تسمَّى (هيستيريا المادية وجنون التكاثر)، وهذه تنشأ عنها مشكلات لا حصر لها، من الغشِّ والكذب، والربا، وطوفان المادية الذى يغرق كل شىء. والمسلمون يجب أن يبصروا فى هذه الدوامة الأخطار التى تحيق بهم، والدمار الذى سينزل بهم، ولو وقفت فى أى طريق اليوم -فى أى بلد من بلاد المسلمين- وسألت الذين ينطلقون على وجوههم -سيارت تندفع وطائرات تهبط وتقلع- لو سألتهم إلى أى غاية أنتم تسارعون؟ لنظر إليك أكثرهم باستغراب؛ نريد الزوجة الجميلة، والشقة الأنيقة، والمتعة، والحساب المكدَّس فى البنوك، والسَّهر طوال الليل هنا وهناك - وهل هناك فى الحياة غير هذا؟! ولو رُحت تُذكِّرهم بالله تعالى وبالدار الآخرة، وبالقيم الأخلاقية وبالموازين الشرعية فى حياتهم -وفى استطاعتهم من خلالها أن يتمتَّعوا بالطيبات فى دائرة الحلال، ويسعدوا بطعم الحياة أيَّما سعادة- لو سمع هذا منك لنظر إليك أكثرهم نظرة إشفاق، ثم استمرَّ فى انطلاقه على غير هدى، ولما أَعَارك أى انتباه!. 2 - الموجة الثانية هى الانطلاق الزائد إلى المتعة والتسلية، والهروب عن أى شيء فيه تكليف، وهذا يتطلَّب منا الصبر، وعلوّ الهِمَّة، وفطم النفس، وبذلك يبعد المسلم عن طبيعته التى عُرِفَ بها على مدار التاريخ، وهى التحمُّل والتقشُّف والشجاعة، وهى المكونات التى أعانت أمة الإسلام على حمل هذه الدعوة، والتغلُّب على الشعوب التى دمَّرتها المعاصى، وأنهكها التَّرف وأمراض المدنية، وحين تمضى الأمور فى الأمة الإسلامية على هذا المنوال، فإنه ولا بد سينشأ جيلٌ ضعيفٌ مائعٌ ضائع، لا يستطيع أن يدفع حتى عن نفسه، فضلا عن أن ينصر غيره، أو يحمل رسالة حق، شعار من يحملها: الرُّجولة والفداء والتَّضحية والثبات. إن أشدَّ ما يُخْشَى على هذه الأمة أن تضيع شخصيتها المثالية، ومركزها القيادى وتضيع شخصيتها الإسلامية، وأن تقوم بينهم وبين رسالة الإسلام فجوة فى التطبيق فيعيش كل فرد فى دنياه، وتعيش كل دولة عربية وإسلامية فى عزلة عن أختها، فيسهل على الأعداء التهامها "إنما يأكل الذِّئب من الغَنَم القَاصِيَة". إن الحقيقة شىء والصورة شىء آخر، ولا بد من الرجوع إلى أنفسنا؛ لنرى موضع الضعف فى حياتنا، وأن نُبْعِد عن حياتنا الصور الجوفاء، وأن نؤمن بأنها موضع الضعف فى حياتنا، وهى سرُّ شقائنا ومصائبنا، وما طمع فينا أبناء صهيون إلا لأننا نعيش فى الصور لا فى الحقائق، "أتى رجل من المسلمين يوم اليرموك، وقال للأمير: إنى قد تهيَّأتُ لأمرى، فهل لك من حاجةٍ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، تُقْرِئُه عنِّى السَّلام، وتقول له: يا رسول الله، إنا قد وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا". أفيقول هذا الكلام إلا من أيقن بأن الله عز وجل سيَرْزُقه الشَّهَادَة، ويَلْقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.. هذه هى الحقيقة وهذا هو اليقين.