لا شك فى أن القوة شىء محمود، بل مأمورٌ به فى الإسلام، ولكن لا بد من أن تكون فى سبيل الحق والدفاع عنه، وفى نصرة المظلوم ورفع العنت عنه، ولا يتأتى ذلك إلا إذا صاحب تلك القوة تقدم روحى ونفسى وإنسانى، وأخلاقى، وبمعنى أشمل (إيمانى)، أما إذا فقدت الإنسانية تعادل القوة والأخلاق والتوازن الإيمانى والنفسى، وافتقرت إلى الرحمة والشعور والضمير، فإن القوة تصير أداة تدمير وشر وبلاء وإهلاك، كالكبريت يعطيك النار، ولك أن تحرق بها بيتًا على سكانه، أو تطبخ بها طعامًا، أو تدفئ بها أجسادًا، وكذلك كل وسائل القوة، فالطائرة تستطيع أن تسافر بها إلى أقاصى المعمورة، وتصل بها إلى ما تريد، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وممكن أن تستعملها فى إلقاء القنابل ورمى الصواريخ لإهلاك الحرث والنسل، والمصنوعات الجامدة لا ذنب لها، فإنها خاضعة لإرادة الإنسان وعقليته وأخلاقه، وهى فى نفسها ليست خيرًا ولا شرًا، وكثيرًا ما تكون خيرًا فيحوِّلها الإنسان إلى شر باستعماله وإرادته وتوجهه، وفساد تربيته. نعم .. ترتقى العقول وتبلغ الدرجات السامية فى العلم والفهم والاختراع، ويرتفع الإنسان ثقافة ومجتمعًا ونهضة، وتعلو الأمم حضارة وصناعة ورفاهية، ثم يُقضى عليها، ويُحكم على تقدمها وحضارتها، وتقدمها الثقافى والتكنولوجى والعلمى بالزوال أو الانحدار، بفسادها النفسى والروحى والخُلقى، ويتكرر ذلك فى دورات التاريخ المختلفة، وتجرى عليها سنة الله ولعنة ذلك الفساد: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 7 14). ولقد رصد كثير من الباحثين اليوم فى الحضارة الغربية هذا التوجه، وحذروا منه، ونبّهوا إليه. يقول الأستاذ (جود) الإنجليزى: "إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلة، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش". ثم يقول فى حديث آخر: "إن هذا التفاوت بين فتوحاتنا العلمية المدهشة، وطفولتنا الاجتماعية المخجلة، نواجهه على كل منعطف ومنعرج، ويظهر للعيان فى كل وقت وحين، فرغم أننا نستطيع أن يحادث بعضنا بعضًا من وراء القارات والبحار، ونرسم الصور بالبرق، وننصب اللاسلكى فى منازلنا ونحمله فى أيدينا، فإننا لا نستطيع أن نتعرف على جيراننا الفقراء، أو نستطلع أخبارهم، ورغم أننا ننمى الزروع بالكهرباء، ونفرش الشوارع بالمطاط والبسط، وتغنينا الصور المتحركة، وتصدح فى منازلنا آلات اللهو، ويملؤها طوفان الترف، إلا أننا لا نستطيع أن ندخل البسمة على الشفاه أو ندخل السعادة على القلوب. ورغم أننا قد أترعت خزائننا بالمال، وفاضت بنوكنا بالعملات الذهبية، وكثر إنتاجنا حتى أعدمناه فى البحار، إلا أننا تركنا الشعوب والأفراد يتضورون جوعًا، بل ويهلكون من قلة الطعام، وقمنا ببذر الفتن بين الشعوب لنجنى الأرباح من السلاح، ونسلب أمن الشعوب، ونمتص عرقهم ودماءهم. إن أصحاب هذه الحضارة لما فقدوا الرغبة فى الخير والصلاح، وضيَّعوا الأصول والمبادئ الصحيحة، وزاغت قلوبهم وانحرفت، واعتلت أذواقهم، ولم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضراوة وضررًا، كما أن الأغذية الصالحة تستحيل فى جسم المريض فسادًا وتلفًا، فلم تزد تلك المخترعات أصحابها إلا جشعًا وسرعة فى الإهلاك، وزيادة فى الاستعباد، وقهرًا للضعفاء). وقد أحسن (إيدن) رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وصف تلك المأساة فى بعض خطبه عام 1938م، إذ يقول: إن أهل الأرض كادوا يرجعون فى أخريات هذا القرن إلى عهد الهمجية والوحشية، ويعيشون عيشة سكان الكهوف والمغارات، ومن الغريب المضحك أن البلاد والدول تنفق ملايين الجنيهات على وقاية نفسها من آلات الفتك التى صنعتها، ولكنها لا تنفق على ضبطها وضبط الإنسان الذى يستعملها، وإنى أتعجب فى بعض الأحيان وأقول: كيف لو زار العالم الجديد زائر من كوكب آخر، وهبط إلينا فما عسى أن يشاهد؟. سيجدنا نعد العدة لإهلاك بعضنا، ونتبادل الأنباء عن المهلكات المخوفة، ويخبر بعضنا بعضًا عن كيفية استعمالها وتطويرها). إن الحضارة الحديثة قد فسدت بذرتها، وخبثت طبيعتها وطينتها، ولم تصلح شجرتها أو تطب ثمرتها: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} (الأعراف: 58). لقد انتقلت الحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية، ولكنها غرست فى تربة لم يكن عندها معين صافٍ، ولا نبع عذب، ولا رسالة هادية، وحكمة إلهية راشدة، بل كان عندها خرافات أديان، وتعاويذ كهنة، وضلالات رهبان، فنبذوها وبدءوا من نقطة الإلحاد والمادية، ونظروا فى الكون والآفاق والأنفس بغير حقيقة إلا المشاهدات والمحسوسات، وتغافلوا عن نواميس الفطرة وقوانين الخالق، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة المادة والنفس والهوى فضلوا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23). وكان يجب على المسلمين أن يقوموا برسالتهم فى العصر الحديث ليجد العالم المصْلَ الواقى، والدواء الشافى، والصراط الهادى، ولكن أنى لهم ذلك، وقد بعدوا عن الرسالة، وخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الأمانة، واتبعوا الشهوات، وعاشوا فى الجاهلية بدل الإسلام، وترهلوا حتى كرهتهم الأمم، وملَّهم الزمن، وضاع منهم العزم، وشرد منهم العقل، وأصبح المنقذ يحتاج إلى منقذ، والطبيب يحتاج إلى من يبرئ علته، ويُذهب سقمه، ويشفى مرضه، وأصبح العاملون للإسلام اليوم يحملون من الهموم والأثقال ما تئن منه الجبال الرواسى همُّ المسلمين وتأخرهم، واتباعهم للباطل، وحبهم للعلل، وتبعة ردهم إلى الجادة، ودون ذلك خطوب وحتوف، وقيود وسدود، وتبعة بعث الرسالة، وإزاحة الغبار عن محياها الصبوح، ووصلها بالأيام ووصل الأيام بها، وإسماع جَرْسها للزمان، وشدوها للآذان. تبعة تخليص دعاتها الجامدين من عاداتهم التى ظنوها إسلامًا، ورواسب عقولهم التى حسبوها إيمانًا، وتبعة هذا العالم، الذى تخلينا عنه فلم نيسّر له الهداية، أو نهيئ له الرسالة، أو نظهر جمالها للعيون، وإبداعها للعقول، حتى يقبل من يقبل عن بينة، ويختار من يختار عن قناعة، ونفتح الآفاق فتح هداية لا فتح قتال فى زمن البحث عن الذات، وعن إنسانية الإنسان. فهل يفعل المسلمون ذلك؟ وهل سيقدر عليه دعاته؟ وبعد هل يكتشف العالم الإسلام من جديد، كثير من الباحثين المخلصين فى العالم اليوم يعيدون قراءة الإسلام من جديد، ويكتشفون أن الإسلام هو صاحب السمات البارزة، والشخصية الفريدة، والذاتية المؤثرة، والفكر المهيمن، والروحانية الغامرة، والواقعية القاهرة، والفطرة النقية، وأنه ديانة ورسالة، وهدف وغاية، ودعوة وبلاغ، وقوة وعزة، وريادة وسيادة. فقلت نعم: كلما تعالت البشرية عن أهوائها، وارتفعت عن وهدتها، فإنها ستدرك عظمة الإسلام وجلال الرسالة، وتبصر روعة التعاليم وقيمة العطاء الإسلامى، لأن هذه الدعوة وتلك الرسالة وهذا المنهج لم يصل إلينا عن طريق الحكماء والمفكرين، ولا عن طريق الحقوقيين والمقننين والمشرعين، ولا عن طريق الأذكياء والفلاسفة والخياليين، ولا عن طريق الزعماء والقادة السياسيين، ولا عن طريق الاجتماعيين والنفسيين والمجربين، وإنما وصل إلينا عن طريق الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا بالوحى المبين، وصدق الله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل: 6)، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر: 87). ولهذا فإنه يجب أن يعلم أن منهج هذه الدعوة وكتابها ودستورها الذى يصرف حياة البشر ينبثق من تصور ربانى النزعة إلهى التوجيه، ليس من صنع ملك أو رئيس أو أمير أو شعب أو برلمان أو حزب، ولهذا فهو لا يعمل لمصلحة أى من هذا.. أو ذاك بعينه، ولا يحابى شعبًا أو لونًا بذاته وشخصه، وإنما يعمل بعدالة إلهية وتوجهات ربانية، وموازين علوية، تقدر النيات وتزن الجهد وتحترم العمل، ولا تلتفت إلى جنس أو لون أو نسب إلا بمقدار ميزانه فى مجال الصالحات والطيبات، فهى إذن ميراث بشرى وناموس كونى وحياتى، يدافع عن الإنسان. كما أنه يجب أن يعلم أن هذه الدعوة الإسلامية مادامت ربانية، إذن فهى خالية من الأحقاد والضغائن التى تحلق الاستقرار والأمن والحب، وخالصة من الأخطاء والعثرات والمعوقات التى تغلق النوافذ على الفطرة البشرية، فلا تستطيع أن تستنشق عبير الصحة وحيوية الحياة، كما أنها بعيدة عن متاهات وصحارى الجفاف العقلى والشطط الفكرى الذى عصف بكثير من العقود والقرون الإنسانية والبيئة، وبريئة من القصور والنقص الذى يلازم القاصرين المحدودين فى الفكر والنظر والعلم، والمحصورين فى الزمان والمكان، كما أنها سليمة من الضعف الإنسانى والغرور، والنزق، والظلم والبغى والتسلط الذى سحق الإنسانية وبطش بها، ومنعها الاستقرار والهدوء، وسلط عليها الفراعنة فى كل زمان ومكان. كما أن المنهج المنبثق من هذه الدعوة ليس نظامًا تاريخيًّا أو دستوريًّا زمنيًّا جاء لفترة محددة أو وقت معين نزل لحقبة من حقب التاريخ المتعاقب الحلقات، كما جاءت كثير من الملل، أو ظهرت جمهرة من الدعوات التى كانت مرحلة من المراحل على طريق الإنسانية الطويل، أو حلقة من الحلقات التى اقتضاها التطوير الإنسانى، أو التقدم الفكرى والرشد العقلى، ولا شريعة من الشرائع التى أراد الله لها أن تكون محدودة الأهداف والمراحل، موقوتة الأزمان والأحوال، حيث كانت الرحمة الإلهية قديمًا تتخير بقاعًا من الأرض تنزل بها لتحيى مواتها وتستقى زرعها وتخرج ثمارها على تفاوت فى الزمان أو تقارب أو تجاور فى المكان أو تباعد، وصدق الله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24). {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36). فكان كل رسول ونذير وسط قومه يبدد ظلامهم ويهدى حائرهم، ويرشد ضالهم إلى أن طلعت شمس الإسلام فأنارت الدنيا وسطعت فى العالمين وأضاءت الدروب والوهاد والقفار، والحواضر والبوادى وصدق القائل: الله أكبر إن دين محمد... وكتابه أقوى وأقوم قيلا لا نذكر الكتب السوالف عنده... طلع الصباح فأطفأ القنديلا جمع شتات الرسالات فى رسالة واحدة، وشتات الأمم فى أمة واحدة، وضم أقوم التعاليم وأروعها فى كتاب واحد يجدد ما اندرس، ويرفع ما انهدم، ويبعث فطرة الإنسان لتعمل عملها فى الإصلاح، ونيته لتفعل فعلها فى التوجيه، وعقله ليشق طريقه فى الاستفادة من خلق الله فى الحياة، ولهذا كل من قرأ الإسلام أسره، أو عرف تعاليمه انقاد إليه. يقول الأديب الألمانى جوته: (إذا كان هذا هو الإسلام، فلم لا نكون جميعًا مسلمين؟) لأنه ليست هناك فضيلة إلا أمر الإسلام بها، أو رذيلة إلا نهى عنها، أو مكرمة إلا حضَّ عليها، ويأخذ الناس إليها بيسر ويدربهم عليها بإحسان وحب. يقول المهتدى (إبراهيم خليل): قرأت بتأمل وتفكير قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53)، وقارنت بين هذه الآية وما ورد فى الإنجيل عن الغفران: بقوله (بدون سفك دم لا تحصل المغفرة) وقوله: (هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الحبيب لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية)، ثم يقول: (إن تعاليم الإسلام هى تعاليم عملية تقدم نموذجًا لبناء الأمم، كما يمنح الإسلام للضالين إحساسًا بالأمل والاتجاه الصحيح، ويمكن الفرد المسلم من فهم واجباته نحو الله ونحو بنى الإنسان بصورة أفضل). ثم يقول (إنجرام) الذى اعتنق الإسلام: (إنى أعتقد أن الإسلام هو الدين الذى يدخل السكينة والسلام إلى النفس ويلهم الإنسان العزاء، وراحة البال والسلوى فى الحياة، فأنا اليوم ابن الإسلام وسعيد به سعادة غامرة). ويقول وزير بريطانيا الأسبق (روبن كوك): "إن ثقافتنا مدينة للإسلام بدين يجدر بالغرب ألا ينساه ونحن نقوم بتطوير علاقتنا مع العالم الإسلامى"، ثم يقول: "يجب أن نسارع إلى الاتصال بالعالم الإسلامى وعلى جناح السرعة وأن يتحاور أحدنا مع الآخر لأننا سنستفيد من ثقافته كثيرًا". إن الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير، فالإسلام وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة ومهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية، علمية وثقافية ونفسية واجتماعية، هذا والحديث يطول فى ذكر هذه الأقوال التى يغفل المسلمون عنها فى حضارتهم، ورسالتهم ومنهجهم. ولكن ما نحب أن نقوله هو ما قاله مارسيل بوازار: إن القضية تتمثل فى استرجاع فكرة الإصلاح الإسلامى من خلال تجلياته الأبدية والمستقبلية، التى يستطيع المسلمون إسعاد العالم بها، ولكن هل يفعلون؟!! نسأل الله ذلك.. آمين.