قديما قالوا: ستكون أكثر جاذبية وروعة أن يعرف الناس خصالك دون عون منك، وقيل أيضا: فلتبتلع كبرياءك بين الحين والآخر.. فهذا لا يزيد من وزنك. حينما أتتبع أحداث اليوم، سواء كانت الاجتماعية أو السياسية، أجد أن قيمة التواضع من أعظم ما يعطى الله عبده، وما وجدت أخطاء من حولنا إلا وكان الكبرياء الأجوف له نصيب، وكانت رؤية الذات بما ليس فيها جزء من المشكلة. ولا شك أن معرفة الذات حق المعرفة فى وجهة نظرى الإنسانية وليست الشرعية فرض عين على كل مسلم، وكم كنت أتوقف حينما أسمع قول سيدنا عمر بن عبد العزيز: "رحم الله امرأ عرف قدر نفسه"، فحينما تعرف نفسك وتفهم من أنت، يتضح لك طريقك بسهولة ويسر، تمضى دون عنت كبير لتضع بصمتك وإضافاتك إلى هذا العالم، وتعامل الآخرين تعاملا راقيا وناضجا، ألست تعرف نفسك فتضبطها وأنت تتعامل مع كل من حولك، كل بحسب نمطه وطريقته، وأنت فى الوقت ذاته تحتفظ بخصوصيتك وقيمك؟ وقول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) أى حينما تشوه الحقائق لأنك لا ترى سوى ذاتك، وحينما تزدرى الآخر، كل آخر حولك وتقول فى نفسك "أنا خير منه" ساعتها تكون الكارثة، وحينها يغيب تقييمك العادل لأفعال من أمامك. ألا تسمع المنهج القائل "إما أن يأتى الخير على يدى أو يهلك الأخضر واليابس" تسمعه فى الأفعال وإن لم تقولها الألسن، منهجية معروفة عن كل فاسد متغطرس لا يرى سوى نفسه. ولا أتحدث عن المعرفة الإيجابية للنفس، ولا بأس أنك "تشوف نفسك" ولكن تراها بشكل صحيح من غير ما "تشوف نفسك"، فالأولى إيجابية مطلوبة، والثانية ذميمة مكروهة، حتى حينما تعرف خصالك، لا تتذكرها كثيرًا إلا وقت الحاجة.. وقد شتم أحدهم ابن العباس رضى الله عنه فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَشْتُمُنِى وَفِىّ ثَلَاثِ خِصَالٍ، إِنِّى لَآتِى عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَدِدْتُ أن جَمِيعَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُهُ، وَإِنِّى لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِى حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ وَلَعَلِّى لَا أُقَاضِى إِلَيْهِ، وَإِنِّى لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ وَمَا لِى بِهِ مِنْ سَاعِيَةٍ".. بل يذهب أبو الحسن لأبعد من ذلك فى نظرته للتواضع فيقول: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا. فهذا الرجل العجوز سبقنى بخبرته وإيمانه، وهذه المرأة العجوز هى التى تصنع للحياة معنى بحنانها، لو لم تذقه، وهذا الطفل الصغير تملؤه البراءة والطهر أكثر منى.. وهذا وهذا.. نظرة مثالية ربما، لكننى نسمع من هؤلاء العظام ونتعلم مهارة التطبيق بما يناسب الحال. أذكر دوما موقف النبى الكريم صلى الله عليه وسلم حينما دخل مطأطأ رأسه حتى يكاد يلامس ناقته فى فتح مكة، كان يريد أن يعلمنا كيف تضبط القلوب، فانكسر حتى بلغة جسدك يعود ذلك على قلبك. حينما تتواضع.. ترى خصال الآخر، تستفيد منها ويزاد الخير إلى رصيدك. حينما تتواضع.. تظهر ابتسامتك بشكل جديد فيحبك أهل الأرض والسماء. حينما تتواضع تتعلم كيف تقول: آسف، شكرا ومن فضلك. حينما تتواضع تعترف بالخطأ فيقدرك الآخرون ويلهمون بك. والأهم أنه بقدر تواضعك لله.. بقدر ما ترتفع وتعلو، ويرفعك الله، حيث لا يمكن أن يحط من قدرك أحد.