إنَّ قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرَّحمن يُصَرِّفها كيف شاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضى الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يُصَرِّفُهُ حيث يشاءُ"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه: "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّف قُلُوبَنَا على طَاعَتِك". كما قال صلى الله عليه وسلم مبينًا شدَّة تقلُّب قلوب العباد: "لَقَلْبُ ابن آدم أشدُّ انقلابًا من القِدْرِ إذا اجتمعت غَلْيًا"، وقد قيل: وما سُمِّى الإنسان إلا لِنَسْيِه ولا القلب إلا أنه يتقَلَّب ومصداق هذا كله مشاهد ملموس فى واقع الناس، فبينما ترى الرجل من أهل الخير والصلاح إذا به انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة بتركه الطاعة وتقاعسه عن الهدى، وبينما ترى الرجل من أهل الفساد أو الكفر والإلحاد إذا به أقبل على الطاعة والإحسان، وسلك سبيل التقى والإيمان. ولذا، فإن التفكُّر فى حال القلب -كما بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم- لتطير له ألباب العقلاء، وتتفطر منه قلوب الأتقياء، كيف لا والخاتمة مغيَّبة، والعاقبة مستورة، والله غالبٌ على أمره، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: "وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار". ومن هنا؛ فإن المسلم الكَيِّس الفَطِن لا بد أن يأخذ بأسباب الثَّبات؛ لأن مقامه خطير والنتائج لا تُخالف مقدمتها، والمسببات مربوطة بأسبابها وسنن الله ثابتة لا تتغير. إننا فى هذه العصور أحوج ما نكون إلى معرفة أسباب الثبات والأخذ بها، فالفتن تراها بعينك تترى بالشبهات والشهوات والقلوب ضعيفة والمعين قليل، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم عن سرعة تقلُّب أهل آخر الزمان لكثرة الفتن، فقال: "بادروا بالأعمال فِتَنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا أو يمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا". ومن هنا كان لا بد للمؤمن من معرفة أسباب الثبات؛ ليتحَرَّاها لعلَّ الله تعالى يهبه إياها: 1- الإيمان بالله تعالى: قال الله عز وجل: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِى الآخِرَةِ" (إبراهيم: 27)، والإيمان الذى وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذى يرسخ فى القلب، وينطق به اللسان، وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلى ولا بالتمنِّى، ولكن ما وقر فى القلب وصدَّقه العمل، فالالتزام الصادق فى الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى: "ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتًا" (النساء: 66)، فالمثابر على الطاعة المداوم عليها المبتغى وجه الله تعالى بها، موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مُقلِّب القلوب ومصرفها. 2- الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى: فليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطبًا خير خلقه وأكرمهم عليه: "ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً"(الإسراء: 74)، وكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: "لا وَمُصَرِّفِ القلوب"؛ مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره. 3- ترك المعاصى والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها: فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". وأما الصغائر؛ فعن سهل بن سعد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إياكم ومُحَقَّرَات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قومٍ نزلوا فى بطن وادٍ، فجاء ذا بِعُودٍ وجاء ذا بِعُودٍ حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تُهْلِكُه". خَلِّ الذُّنوبَ صَغِيرها وَكَبِيرَها فهو التُّقَى كُنْ فَوْقَ ماشٍ فَوْقَ أر ضِ الشَّوْكِ يحذَرُ ما يَرى لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً إنَّ الجبالَ مِنَ الحَصَى 4- الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلمًا وعملاً وتدبرًا: فإن الله عز وجل أخبر بأن هذا الكتاب المجيد تثبيت للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وهُدًى وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل: 12)، فكتاب الله عز وجل هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسَّك به وعمل. 5- عدم الأمن من مكر الله عز وجل: فإن الله عز وجل قد حذَّر عبادَه مَكْرَه، فقال عز وجل: "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا القَوْمُ الخَاسِرُونَ" (الأعراف: 99)، وقد قطع خوف مكر الله تعالى ظهور المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان، وقال الله تعالى:"أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ* سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ" (القلم: 39 - 40). أما المحسنون من السلف والخلف؛ فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ عملهم وحسن أعمالهم، فقد سلكوا درب المخاوف يخافون سَلْب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحى والقرآن، فالحَذَر.. الحَذَر.. من الأمن والركون إلى النفس، فإنه ما دام نَفَسُك يتردد، فإنك على خطر. قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنَّ العبد إذا علم أن الله عز وجل مُقَلِّب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى كل يوم هو فى شأن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه يهدى مَنْ يشاء ويُضِلّ مَنْ يشاء، ويرفع مَنْ يشاء ويخفض مَنْ يشاء، فما يُؤمِّنه أن يُقَلِّب الله قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا" (آل عمران: 8)، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه ألا يزيغ قلوبهم". 6- سؤال الله تعالى التثبيت: فإن الله سبحانه هو الذى يُثبِّتك ويهديك، قال الله تعالى: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِى الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم: 27). فأَلِحُّوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة والشبهات خطَّافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدَّمَك من المؤمنين أسوة حسنة، فإن من دعائهم: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ"، وما ذكره الله تعالى عنهم: "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ" (البقرة: 250)، وقد كان أكثر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم:"يا مُقَلِّب القلوبَ ثَبِّتْ قَلْبِى على دِينِك". 7- نصر دين الله ونصر أوليائه المتقين وحزبه المفلحين: قال الله تعالى: "إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7)، ونصر دين الله تعالى وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدُّها حد، ولا تقف عند رسم. - فالثبات على الدَّعوة إلى الله بجميع صورها نَصْرٌ لدين الله تعالى. - وطلب العلم والصبر على تحصيله نصرٌ لدين الله تعالى. - والعمل بالعلم وتحمل تبعات تطبيقه نصرٌ لدين الله تعالى. - وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصرٌ لدين الله تعالى. - والردُّ على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصرٌ لدين الله تعالى. - والبذل فى سبيل الله والإنفاق فى وجوه البرِّ نصرٌ لدين الله تعالى. - والذَّبُّ عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصرٌ لدين الله تعالى. وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة، ولا تحقرنَّ من هذه الأعمال شيئًا، فقاعدة الطريق قوله صلى الله عليه وسلم:"اتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمْرة". قال ابن القيم -رحمه الله: هذا.. ونصرُ الدِّينِ فرضٌ لازمٌ لا للكفايةِ بَلْ عَلَى الأَعْيانِ 8- الرجوع إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة: الذين هم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشرِّ، فافزع إليهم عند توالى الشُّبهات وتعاقب الشَّهوات، قبل أن تنشب أظفارها فى قلبك فتوردك المهالك. قال ابن القيم حاكيًا عن نفسه وأصحابه: "وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه -أى: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنا وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنَّته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها فى دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطِيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها". 9- الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصى: فإنه لن يُحصِّل العبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله تعالى نبيَّه بالصبر، فقال:"واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِى يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا" (الكهف: 28)، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ومن يَسْتَعْفِف يُعِفُّه الله، ومن يستغْنِ يُغْنِهِ الله، ومن يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ الله، وما أُعْطِى أحدٌ من عطاءٍ خيرٌ وأوْسَعُ من الصبر". 10- كثرة ذكر الله تعالى: كيف لا وقد قال سبحانه: "أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ" (الرعد: 28)، قال صلى الله عليه وسلم:"مَثَلُ الذى يَذْكُرُ رَبَّه والذى لا يذكر ربه مَثَلُ الحى والمَيِّت". وقد أمر الله تعالى عباده بالإكثار من ذكره فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً* هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا" (الأحزاب: 41 - 43)، فذكر الله كثيرًا، وتسبيحه كثيرًا سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التى يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور؛ فيا حسرة الغافلين عن ربهم!! ماذا حُرِمُوا من خيره وفضله وإحسانه؟! 11- ترك الظلم: فالظُّلْم عاقبته وخيمة، وقد جعل الله، عز وجل، التثبيت نصيب المؤمنين، والإضلال حظّ الظالمين، فقال جلَّ ذكره: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِى الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم: 27)، فاتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصى والذنوب، واتقوا ظُلْم أهليكم بالتَّفْريط فى حقوقهم والتضييع لهم، واتقوا ظُلْم من استرعاكم الله إياهم من العُمَّال، فإن الظُّلْم ظلماتٌ يوم القيامة.