بحث المسلمين اليوم عن هويتهم شىء يدعو إلى التفاؤل والسرور، ويبشر بالخير والتقدم، لأن كل أمة لا تسود إلا بهوية، ولا تعلو إلا بثقافة وتميز، ولكن هل هذا شىء سهل المنال، وأمر قريب القطاف، أم أنه أمل يحتاج إلى عمل، ومشروع يتطلب أفعالًا وجهودًا، وبخاصة إذا كان هذا التوجه محاربًا فى الداخل والخارج، ومُعادَى عند السلطات القومية والقوى العالمية، والحقيقة أن هذه التوجهات المعادية مهما بلغت من قوة وأوتيت من شراسة لن تستطيع أن تمنع رغبات الشعوب، أو انطلاقات أصحاب المبادئ. فهل هناك استعداد فعلى وإصرار نفسى عند المسلمين على ذلك، سواء كان المسلم فى الشرق أو فى الغرب؟ وهل أحس المسلم بحجم الضياع وعظم المهانة التى يتعرض لها فى العالم لضياع تلك الهوية؟ وهل شعر بذهول السلطات فى بلاده عن رعايته داخليا وخارجيا؟ وهل عرف فضل الإسلام الذى رفع العرب من ضِعة، وهداهم من ضلالة، وحضَّرهم من بداوة، وجعلهم سادة الأمم وقادة الشعوب؟ وهل أيقن يقينًا لا يخالطه شك أو يداخله ريب، أن الإسلام هو الذى بث الحضارة فى أنحاء المعمورة، وأخذ بيد تلك الأمم الأوروبية وقادها إلى نور العلم والمعرفة، ورادها إلى الطريق القويم فى تلك الصناعات والاختراعات التى تفخر بها وتدل، وتتيه بها وتشمخ، وأن تلك الحضارة الغربية اليوم قد خسرت كثيرًا بانحدار المسلمين، الذين كانوا سيخلصونها من أمراضها الروحية والنفسية القاتلة، وعللها الاجتماعية والأسرية والأخلاقية المدمرة، التى ترزح تحتها اليوم، وأن خسارتها بغياب الإسلام عن الساحة العالمية لا تعدلها خسارة مهما عظمت؟ وما أصدق قول الندوى فى ذلك حيث قال: (لم يكن انحطاط المسلمين أولًا، وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم بعد، وانسحابهم من ميدان الحياة والعمل أخيرًا، حادثًا من نوع ما وقع وتكرر فى التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم، وانقراض الحكومات والدول، وانكسار الملوك، والفاتحين، وانهزام الغزاة والمنتصرين، وتقلص ظل المدنيات، والجزر السياسى بعد المد، فما أكثر ما وقع مثل هذا فى تاريخ كل أمة، وما أكثر أمثاله فى تاريخ الإنسان العام! ولكن هذا الحادث كان غريبًا لا مثيل له فى التاريخ، مع أن فى التاريخ أمثلة لكل حادث غريب). لم يكن هذا الحادث يخص العرب وحدهم، ولا يخص الشعوب والأمم التى دانت بالإسلام، فضلًا عن الأسر والبيوتات التى خسرت دولتها وبلادها، بل هى مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها، ولا أعم، فلو عرف العالم حقيقة هذه الكارثة، ومقدار خسارته، وانكشف عنه غطاء العصبية لاتخذ هذا اليوم النحس -الذى وقعت فيه- يوم عزاء ورثاء، ونياحة وبكاء، ولتبادلت شعوب العالم وأممه التعازى، ولبست الدنيا ثوب الحداد، ولكن ذلك لم يتم فى يوم، وإنما وقع تدريجيا فى عقود من السنين، والعالم لم يحسب إلى الآن الحساب الصحيح لهذا الحادث، ولم يقدره قدره، وليس عنده المقياس الصحيح لشقائه وحرمانه، إن العالم، والإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان والرفاه والنعيم من فرد إلى آخر من جنسه، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها فى الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان، وإن هذا الكون لا يتفجع، ولا يتألم بانحطاط أمة أدركها الهرم وسرى فيها الوهن، وسقوط دولة تآكلت جذورها وتفككت أوصالها، بل بالعكس تقتضى ذلك سنة الكون. وإن دموع الإنسان أعز من أن تفيض كل يوم على ملك راحل، وسلطان زائل، وإن السماء والأرض لا تأسفان على هذه الحوادث التى تقع ويترك فيها هؤلاء سلطانهم: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ* فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} (الدخان: 25 29). بل إن كثيرًا من هؤلاء الحكام والسلاطين والأمم كانوا حملًا وكلا على ظهر الأرض، وويلًا للنوع الإنسانى، وعذابًا للأمم الصغيرة والضعيفة، فقطع الزمان دابرهم فاستوجب ذلك الحمد والمنة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 45)، ولكن لم يكن انحطاط المسلمين وزوال دولتهم وركود ريحهم -وهم حملة رسالة الأنبياء، وهم للعالم البشرى كالعافية للجسم الإنسانى- انحطاط شعب، أو عصر، أو قوم، فما أهون خطبه، وما أخف وقعه، ولكنه انحطاط رسالة هى للمجتمع البشرى كالروح، وانهيار دعامة قام عليها نظام الدين والدنيا، فهل كان انحطاط المسلمين واعتزالهم فى الواقع مما يأسف له الإنسان فى شرق الأرض وغربها، وبعد قرون مضت على الحادث؟ إنها لخسارة حقا أن يمنع وحى السماء عن عباد الله، وأن تسود الأهواء والعنصريات، ويعم الاستعباد والقهر من جديد، وترزح البشرية تحت نير النخاسة، وتساق كل يوم كالرقيق لتباع شرفًا وعِرضًا، وتقتل نفسًا وجسدًا، وتسحق إنسانيتها تحت الأقدام، وتعيش لبطنها وشهوتها، بدون أخلاق أو قيم، وقد شقيت كثيرًا بما استحدثته من صفات النفعية وأساليب النهب والعنف والتوحش فى السلوك والأفعال. يجب أن يشعر المسلم فى الشرق أو فى الغرب أنه صاحب رسالة، وحامل دعوة، وأن مصيره ومستقبله وقيمته الحقيقية فى رسالته ودعوته ومنهجه، وأنه لا بد من أن يرتفع إلى مستوى تلك الرسالة، وأن يشعر بمسئوليته نحوها، وأنه لن يبلغ ذلك إلا بجد واجتهاد، وصبر وتضحيات، وارتفاع إلى مستوى العصر والوقت فى الأساليب والوسائل، يجب أن يأخذ مكانه فى الصف، وموقعه فى القيادة، وريادته فى المثل؛ حتى نُرى الدنيا الأفعال لا الأقوال، والأعمال الباهرة، والإبداعات القاهرة، والعقول الزاهرة، يجب أن ترجع إلى المسلم زعامته الخلقية، والإنسانية، والروحية، والعلمية، وأن يصحو من غفوته، وينهض من كبوته، ويملك زمام الحياة، ويتخطى كل المنافسات، ويجتاز كل العقبات، ويتمكن من الفوز، إذا أردنا أن ننقذ أمتنا ونسترد كرامتنا، ونرد الإنسانية إلى الجادة ونحفظها من مصير رهيب. وقد يقول قائل: وكيف يكون ذلك؟ نقول: إذا آمنت بربك ثم برسالتك وعشت فى سرك وعلنك مع الله، وسموت على الزمان والمكان والأحداث، كنت فى مختلف الظروف أقوى وأكبر من كل الظروف، وسمعت قول الله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139)، {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج : 40). نسأل الله ذلك.. آمين.. آمين.