يحتفل العالم الاسلامي بعد غد بعيد الهجرة، إن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام من مكة الي المدينة لم تكن حادثا محليا، بل هي في تقدير المفكرين والباحثين المنصفين من الغرب والشرق، حادث عالمي إنساني، نقل الجنس البشري من حال الي حال، وساوي بين الناس جميعا، لا فرق بينهم بسبب الثروة أو الجنس أو اللغة أو اللون، وجعل كرامة الانسان وحريته في الحياة مقدمة علي ما عداها، واطلق الفكر الانساني من الخرافات والأساطير. وقد وصف »ه. ج. ويلز« في كتابه تاريخ العالم، انتشار الاسلام بقوله »وفجأة نهض العرب كالشعلة وفي أقل من قرن نشروا سلطانهم ولغتهم من أسبانيا الي حدود الصين، وقدموا للعالم ثقافة جديدة، واعتنقوا دينا لا يزال حتي اليوم من أعظم القوي فعالية وتأثيرا في العالم« وبعد أن أورد ويلز أسبابا ثلاثة أرجع اليها قوة الاسلام وقدرته علي الاستمرار والتأثير قال »انه بعد وفاة النبي محمد وقع اكبر غزو في تاريخ الجنس البشري، واكثره مدعاة للدهشة والعجب، فقد سحق المسلمون جيش بيزنطيا في موقعه اليرموك في سنة 436 بعد وفاة محمد بسنتين، وسقطت دمشق وبيت المقدس وسوريا كلها في أيديهم، واتجهوا شرقا فاستولوا علي إيران وتركستان وبلغوا حدود الصين، وسقطت مصر في أيديهم دون مقاومة، واندفعوا الي شمال افريقيا حتي بلغوا جبل طارق، واجتازوه الي اسبانيا، وبلغوا جبال »البرنيز« في سنة 027، وبعد ذلك باثنتي عشرة سنة اجتازوها وبلغوا وسط فرنسا، حيث ارتدوا عنها في موقعة بوالييه، وعادوا الي جبال البرنيز. وقارن »ويلز« بين الإغريق والعرب، فقال ان تأثير العرب كان أقوي وأشمل في تخليص العالم من الأفكار القديمة والمعتقدات الخاطئة، وإحلال أفكار جديدة محلها. نذكر هذا ونحن نحتفل بعيد الهجرة، فندرك مكانتنا في الحضارة العالمية، والفكر العالمي، وندرك أنه لولا بسالة الدعاة الأول واخلاصهم للدين الجديد، وعمق إيمانهم به، وصبرهم علي المكارة، وذودهم عما يعتقدون أنه الخير والعدل والسلام، لما كتب الله لدينه، ما كتب له من نصر وجلال، وندرك ايضا -وهذا هو الأهم- أننا حملة رسالة علينا أن نكون أكفاء لحملها، فنذود عن انفسنا ما يراد بنا من شر. لابد ان يذكر العالم كله محمدا صلوات الله عليه، إن لم يكن كنبي صاحب رسالة الهية، فكإنسان عظيم وبطل عظيم، نشر النور والسلام في رحاب الصحراء، وأخرج للناس أمة علمت الناس التسامح والمحبة، فذهب مجدها شرقا وغربا، تدعو دعوة التوحيد من غير اكراه ولا بغي، فمن آمن فإنما يؤمن لنفسه، ومن انكر فعليه إثم الانكار. لسنا نذكر محمدا صاحب الدين، ولكننا نذكر محمدا الانسان، محمدا المجاهد الذي لم يعرف اليأس الطريق الي قلبه ، وهو يري قومه يأتمرون به، ويعصونه، وأنصاره يريدون الأذي والشر، وهو يري من حوله سادة قريش وأغنياءها ينكرونه ويدفعونه عن دعوته، ويبلغ بهم المكر والحقد حد التفكير في قتله، لم يكونوا يفكرون في الدفاع عن آلهتهم بقدر ما كانوا يدافعون عن مصالحهم. ان الدين الجديد يساوي بينهم وبين مواليهم، ويجعل الناس أندادا لا يمتازون بالثروة والجاه، ولكن يمتازون بالتقوي والعمل الصالح. كانت الدعوة الجديدة معناها مجتمعا جديدا وتفكيرا جديدا وتطورا جديد، كان الأباطرة والقياصرة هم سادة الدنيا، لا رأي لاحد غيرهم، الشعب عندهم لا اعتبار له ولا كرامة، الدنيا دنياهم والمجد مجدهم والكرامة كرامتهم، الشعوب عبيد واماء. ومن يكون الداعية الجديد؟ ملك أو أمير، قيصر أو إمبراطور، كلا لم يكن شيئا من هذا، كان رجلا فقيرا لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه وهب سرا من أسرار الله خالق الكون، فجعله أقوي من القياصرة والأباطرة والملوك والأمراء.. هذا هو محمد العظيم، الذي كانت حياته انقلابا في الحياة، ودعوته نورا أضاء للبشرية، طريق المحبة والسلام. انني لا انظر الي الهجرة علي أنها حادث يحتفل به المسلمون وحدهم، بل حادث غير وجه التاريخ، وأرسي في العلاقات الإنسانية قواعد ومباديء كانت لخير الانسانية، إنها من الانحناءات البارزة في تاريخ العالم التي حولت مسيرة من الظلام والظلم الي نور الحق والعدل والمساواة.