رئيس جامعة القناة يوجه بتوفير الدعم الكامل للطلاب ذوي الهمم    البابا تواضروس يصلي القداس الإلهي ب كنيسة «العذراء» بأرض الجولف    أسعار العملات العربية في ختام تعاملات السبت 24 مايو    النفط يسجل خسارة أسبوعية وسط ضغوط محتملة من زيادة إنتاج «أوبك+»    حكومة غزة: استشهاد 9 أطفال أشقاء نموذج دامغ على جرائم الاحتلال    تركيا ترحب برفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سوريا    مركز الساحل والصحراء يعقد مؤتمرًا عن "الإرهاب فى غرب أفريقيا".. صور    تشكيل حرس الحدود لمواجهة سيراميكا في الدوري    إصابة نجم يد الزمالك بقطع في الرباط الصليبي للركبة    مصرع عنصر إجرامي وضبط آخرين في مداهمات أمنية لمطلوبين في أسوان    بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني ب8 مدارس فنية للتمريض بالإسكندرية    تأجيل محاكمة أكبر مافيا لتزوير الشهادات الجامعية    سارة التونسي تستعد لعرض مسلسل «مملكة الحرير»    فرقة الغنايم تقدم «طواحين الهوا» على مسرح قصر الثقافة    محمد رمضان ينشر صورة من كواليس فيلمه الجديد «أسد»    موعد افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. هل يوافق إجازة رسمية؟    هل يقصد أحمد السقا؟.. طارق الشناوي: نجم فقد توازنه العقلي وكشف خصوصياته    الوحيد من نوعه.. تشغيل جهاز القسطرة المخية بمستشفى سوهاج الجامعي    وزارة الأوقاف الأردنية تحتفي بوداع حجاج المملكة إلى الديار المقدسة    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    وزير البترول يتفقد المجمع الحكومي للخدمات الذكية خلال جولته بالوادى الجديد    "ملكة جمال الكون" ديو يجمع تامر حسني والشامي    ملك المونولوج.. ذكرى رحيل إسماعيل ياسين في كاريكاتير اليوم السابع    مصر للتأمين تفتح باب التقديم لبرنامج التدريب الصيفي لعام 2025    كونتي ضد كابيلو.. محكمة تحدد المدرب الأفضل في تاريخ الدوري الإيطالي    هيثم فاروق: بيراميدز الوحيد الذي نجح في إحراج صن داونز بدوري الأبطال    بمشاركة منتخب مصر.. فيفا يعلن ملاعب كأس العرب    ذا أثليتك: أموريم أبلغ جارناتشو بالبحث عن نادٍ جديد في الصيف    محمد صلاح يعادل إنجاز رونالدو وهنري ودي بروين    محافظ الإسماعيلية ووزير الرياضة يشهدان لقاء القيادات الشبابية بمعسكر القرش (فيديو وصور)    النزول من الطائرة بالونش!    اتحاد الصناعات: الدولة تبذل جهودا كبيرة لتعميق صناعة حديد التسليح محليًا    سيد عطا: جاهزية جامعة حلوان الأهلية لسير الاختبارات.. صور    النائب مصطفى سالمان: تعديلات قانون انتخابات الشيوخ خطوة لضمان عدالة التمثيل    تسجل 44.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس في مصر: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد ل48 ساعة    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    وزير الداخلية اللبناني: الدولة لن تستكين إلا بتحرير كل جزء من أراضيها    يديعوت: تأجيل تفعيل آلية توزيع المساعدات الأميركية في غزة لأسباب لوجستية    القوات الروسية تسيطر على 3 بلدات في شرق أوكرانيا    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    المرصد الأورومتوسطي: إسرائيل تصعد سياسة التهجير والتجويع تمهيدًا لطرد جماعي للفلسطينيين    محافظ قنا يكرم باحثة قانونية لحصولها على الدكتوراة في العلوم السياسية    خالد يوسف: «السينما فن جماعي.. والجمهور حر يختار ويُقيّم دون وصاية».. فيديو    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    رئيس الوزراء يفتتح المقر الرئيسي الجديد لهيئة الإسعاف    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    جامعة كفر الشيخ تسابق الزمن لإنهاء استكمال المنظومة الطبية والارتقاء بالمستشفيات الجديدة    مباشر.. أسرة سلطان القراء الشيخ سيد سعيد تستعد لاستقبال جثمانه بالدقهلية    التشكيل الرسمي لصن داونز أمام بيراميدز بذهاب نهائي دوري الأبطال    براتب 20 ألف جنيه.. تعرف على فرص عمل للشباب في الأردن    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    خلي بالك.. رادارات السرعة تلتقط 26 ألف مخالفة في يوم واحد    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أُم نضال".. نموذج مشرف ل"نضال أمّ"


(الحلقة الأولى)
- لم أدفع ابنى محمد للموت وإنما لحياة لا تدرى نفس ما أخفى له فيها من قرة أعين
- آويت عماد عقل "المطارد رقم 1" فى دارى.. فاقتسم مع أبنائى الحياة والموت
- عندما حاصر اليهود دارى صعد عقل للسطح وأطلق عليهم الرصاص ليلقى الله مقبلا غير مدبر
- كان "عقل" رجلا بمعنى الكلمة.. متحمسا فى غير تهور.. حازما فى غير قسوة
- كان لا يمر يوم دون أن يكون لعماد عقل نصيب من القرآن
- "الشهادة فى سبيل".. فن لا يتقنه إلا أناس لهم صفات خاصة
- مدرسة "أم نضال" فى الجهاد خرجت ثلاثة من أساتذة فن الاستشهاد
- محمد.. أول أبنائها الشهداء.. والأكثر شبها بها.. ماجستير فى فن "العمليات"
- قتل المحتلين الغاصبين أراضينا عبادة نتقرب بها إلى الله عز وجل
- هناك من البشر رجال ترفعوا عن العيش فى السفوح ولم يرضوا عن القمم بديلا
تمهيد:
إذا كان التاريخ الإسلامى قد أثنى على "رجال" وقفوا بجوار النبى صلى الله عليه وسلم، فى مسيرته الطويلة، منذ نزول الوحى عليه، وحتى وفاته، مرورا بالمراحل التى مر بها على مدى 23 سنة عاشها داعيا إلى الله، فى ربوع الجزيرة العربية، فإنه لم يغفل الدور الذى قام به نساء فضليات عشن مناصرات لهذا الدين العظيم، داعيات إلى الله، مجاهدات مع نبيه.
وقد قدمت الصحابية الجليلة والشاعرة القديرة (الخنساء) تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رباح السلمية، نموذجا رائعا يحتذى به، من عصر النبوة، بقولتها التى سجلها التاريخ بمداد من ذهب على صحائف من نور، عندما قالت لما بلغها خبر استشهاد أبنائها الأربعة فى معركة القادسية: (الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته).
وفى هذه السطور، نقلب مع "الحرية والعدالة" صفحات مضيئة، من حياة واحدة من "صحابيات هذا العصر" الذى نحياه، إن جاز التعبير؛ حيث ضربت المثل فى الصبر والتحمل، والتضحية والثبات، إذ قدمت ثلاثة من فلذات أكبادها، فى معركة التحرير المستمرة ضد المحتل الإسرائيلى الغاصب.. إنها الشهيدة «أم نضال»، مريم فرحات، النائب فى المجلس التشريعى عن كتلة التغيير والإصلاح، التابعة لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، والملقبة ب«خنساء فلسطين».
عرفوها "أم نضال"... وعرفتها "أمى".. عرفوها "أم نضال".. وعرفتها "أمّة نضال".. فإذا حاولت وصف أمى التى كانت "أُمّة" من أين لى الكلمات التى تستطيع وصف امرأة تجاوزت أقوالها وقع البارود، ورقة الندى، ناهيك عن الأفعال التى جعلتها قدوة ومثلا لأمّة بأكملها.
تعجز الكلمات وتهرب الحروف من روح مفعمة بذكرياتك الجميلة أماه.. ولسان حالها يقول:
ماذا أقول وقلبى ملؤه الآهُ؟
وهل سيسعف قلبى بعض شكواهُ؟
ماذا أقول ودمع العين منهمرٌ
يشق كالسيل فى الخدين مجراهُ؟
أتردد كثيرا عن البوح خشية أن تتآكل الذكرى فى الوجدان، حين تسجن فى قيود الكلمات.
أضن باللحظات التى تشاركناها فكانت كألف ألف حياة، إلا أنها انقضت قبل أن يرتد إلى طرفى.
لكنه حقك على.. وعلينا جميعا، أن تدوم سيرتك العطرة زاد لكل آت على ذات الدرب.. وألا تدفعنى أنانيتى أن أختزن ذكرياتنا معا فى قلبى وحدى.. فتبقى رهينة تقلباته.. ويا لتقلبات القلب أماه بين "شرة وفترة"!.. ورُبّ قارئ أحق منى بك.
ولذا أماه سأجمع أشلاء روحى الممزقة حزنا على فراقك وأكتب، سائلة الله أن يغفر لى تقصيرى فى حقك.. فمهما كتبت فهو غيض من فيض حياة سطرت بالألم والجهاد والصبر والثبات.
حين يجاوز الواقع لذة الحلم
أغلق باب غرفتى الصغيرة بإحكام.. أطفئ الأنوار لأنقطع عن كل ما يجرى فى دنيا البشر، أضغط زر التشغيل لأنتقل لعالم آخر مواز.. تضىء الشاشة أمامى يزينها وجهيكما الوضاءان.. ويمتلئ الفراغ حولى بصوت يردد:
هيأت لى أمى فراشا وثيرا.. من رياش الحمام حشت الوسادة
صبغت غرفتى بلون المرايا.. وتمنت على عهد السعادة
قالت هذى عروسك يا ولدى.. إنها الدر بهجة ونجادا
فرفضت وقلت: يا أم حيدى.. إن عرسى فى الأرض يوم الشهادة
يوم ألقى حور الجنان ودمى فوق صدرى وسام كالقلادة
يومها تصبح جراحى صلاة.. وصلاة الجراح أحلى عبادة
يتوقف الزمن لثوان معدودات.. ثم ما يلبث صوتك أن يتدفق بوجدانى.. رقراقا كقطرات الندى.. حاسما كحد الحسام "من كانت تحب ولدها فلتعطه أغلى ما تستطيع.. وأغلى ما يمكن أن تقدمه هو.. الجنة".. تطبعين قبلتك الأخيرة على جبينه.. توصيه بذكر الله والتوكل عليه والتركيز فى عمليته..
عمليته؟!.. نعم.. فهو من بين أحضانك الآن سينطلق ليعانق الموت.. ولكن بعد أن يذيق أعداء الله نار بارودته التى ادخر ليشتريها منذ كان فى التاسعة من عمره، بينما الأولاد يبكون لآبائهم طلبا للألعاب والدمى.. وفيما يتسابقون ويلهون بين حارات الشجاعية.. كان هو يرقب بعينى صقر دوريات العدو لينقل نبأهم إلى أسد الكتائب عماد فى معقله بدارك...
ولكن.. أيموت محمد؟.. أتدفعينه للموت حقا؟.. هذا الفتى الوسيم فى ربيعه ال19.. الذى يكشف جبينه الشامخ بسهولة أنه بضعة منك.. فما أشبهه بجبينك..
"لا.. إنما أدفعه إلى حياة لا تدرى نفس ما أخفى له فيها من قرة أعين".. هكذا تقول عيناك الجميلة التى لا تفارقها النظرة الحانية منذ عرفتك..
"نعم يا بنيتى حياة.. فشتان بين الثرى والثريا.. بين من يقدم روحه لله.. وبين من يموت ذليلا حتف أنفه.. فلا نامت أعين الجبناء".. يستمر حديث العيون بيننا فى عالمى الموازى.. الذى ما أكاد أخرج منه حتى أندس فى فراشى؛ خشية أن يدنس حرمة تلك اللحظات أى حدث دنيوى آخر.. وتتعلق عيناى بصورة ذاك الملثم على جدار غرفتى ليروى لى حكايته معك، قاطعا إياها بين الحين والآخر بجملته الشهيرة "قتل الصهاينة عبادة أتقرب بها إلى الله"...
ومذاك الحين رحت أجمع كل كلمة لك وقصاصة عنك.. أسبح فى تفاصيل حياتك، مواقفك، أتأمل صورك.. تعبيراتك.. أبحث فيها عن سرك.. نعم سرك.. فلله فى خلقه أسرار تصنع منهم ما نعرفه عنهم وما لا نعرفه.. فما سرك أماه؟.. ما سر هذه الأم الذى حولها لأمّة؟
وفى رحلة البحث التقيته هناك.. بين سطور الحكايا.. يخبرنى أنك من آواه فى دارك حين كان "المطارد رقم 1" رغم سنوات عمره التى لم تتجاوز الاثنتين والعشرين.. آخى أبناءك واقتسما معا الحياة والموت.. تناول من يديك كوب الشاى الأخير لينهى صوم يومه.. وتلقى على عتبات بيتك الرصاصة الأخيرة ليروى ظمأً طال للفردوس الأعلى.. وحمله "نضال" بين يديه حين جبن قاتلوه عن أن يقتربوا من جسده المسجى.. وأبى القدر إلا أن يرافقه أبناؤك فى موكبه المهيب.. فودعته إلى الجنة بنظراتك الحانية الثابتة وودعتهم لأسر لن يطول.. ولكنه سيتكرر مرات ومرات..
وما هى إلا شهور قليلة حتى أذن الله باللقاء.. أحقا أنا الآن معك.. تحاكينى.. تطعمينى بيديك.. تؤمينى فى صلاتى.. تسمحين لى بتقبيل جبينك الشامخ.. تمسحين على رأسى وتدعين لى.. "الله يرضى عليك".. آآآآآآآآآآآآآه يا أماه كم أفتقد دعاءك؟!
وينساب الحديث بيننا وننسى الوقت، وقد تخلل شجن الحديث عن الراحلين فرحة لقاء فلذة كبدك.. والقريب من قلبك.. أشبه إخوته بوالده كما كنت تخبرينى.. بعد فراق دام 11 عاما..
11 عاما.. كان يرافق فيها السجان.. ويبحث أقرانه عن رفيقة العمر.. تزينه بدلة الأسر.. وسواه يرتدى ثوب العرس.. يحمل قيوده فى كل حركة.. وأترابه يحملون أبناءهم.. تنقضى أيام عمره أسيرا.. فتمر الساعات على قلبك المرهف كدهر مثقل بالآلام.. لا حزنا على فوات حظ له من حظوظ الدنيا.. بل كنت تذكرينه فى كل اجتياح "ليته كان هنا.. يقاتل مع إخوانه".. وفى كل عملية "ليته كان شهيدا"..
وهو كذلك أماه.. لم يختلف عنك.. نفس المعنى قاله فى أول لقاء جمعنى بكما.. وفى آخر لقاء أيضا بعدها بسنوات.. ففى الأول، وبينما نحكى عن حبيبنا عماد عقل قال لى "عماد لما عرف إن اليهود حاصروا الدار، ما كان معه إلا مسدسه.. فصعد إلى السطح، وظل يطلق عليهم الرصاص ليموت وهو يقاتل.. فمثل عماد لا يؤسر".. "مثل عماد لا يؤسر"..
أما فى اللقاء الأخير فقال وهو يعيد على حكاية لا أمل سماعها عن كيف أسر هو "كان معى وقتها العبوات التى أنقلها للمكان المحدد.. بس للأسف لم تكن مجهزة للتفجير حين داهموا السيارة وأحاط بى عشرات الجنود والضباط الصهاينة... آآآآآه لو كانت مجهزة.. كان الواحد خلص الموضوع.. يا خسارة.. كانت غلطة".
هذا عشقكم إذا أماه.. العشق المتغلغل فى روحك، الذى أرضعته لأبنائك فصار رباط الروح بينكم.. لا شعور الأمومة فقط.
وعن عماد نتحدث.. فأحكى لك عما أعرفه عنه.. عن صفاته.. عن طباعه.. وتحكين لى، كيف كان رجلا بكل معانى الكلمة، متحمس فى غير تهور.. حازم فى غير قسوة.. ذكى ومنظم وحذر فى غير تراخٍ أو تردد.. وكان لا يمر يوم دون أن يكون له نصيب من القرآن ولو صفحة واحدة.
وسحرت بالصحبة.. ونسيت الزمن.. ومضيت بعد أكثر من 6 ساعات.. وقد تركت قلبى هناك.. ساكنا بين حضنك الدافئ الذى احتوانى فذبت فى عالمك الاستثنائى.. ودعاؤك يرافقنى "الله يرضى عليك"..
فن صناعة الشهداء
"الشهادة".. فن لا يتقنه إلا أناس لهم صفات خاصة.. وكأى فن حتى تبدع فيه لا بد أن تكون لديك الموهبة "ويتخذ منكم شهداء".. التى تصقلها بالتدريب الجاد المتواصل "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين".. حتى تفوز فى هذا الفن بأرفع الأوسمة " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (آل عمران: 169، 170).
أما أرقى بيوت الخبرة ومعاهد التدريب فى هذا الفن فهو.. "مدرسة أم نضال.. لتخريج المجاهدين والشهداء".
"فى الانتفاضة الأولى كنا لسه صغار أنا وحسام ومؤمن ونضال.. كنا نضبش بالحجارة على الصهاينة وراجعين الدار متأخرين.. تسللنا لغرفتنا قبل أن ترانا الحاجة.. بس دقائق ولقيناها داخلة علينا.. صراحة بنخافها ونحترمها كتير.. قلنا كلنا ربنا يستر".. يروى أخى وسام عن أول درس تلقوه فى هذا الفن.
"شوف ياما.. أنا ما بدى اياكم تضبشوا بالحجارة وبس.. بدى اليوم اللى تقاتلوا فيه اليهود وتحرروا الأقصى.. ومشان يتحقق هاداك لازم ما تسيروا مع أى حدا.. هى لله.. مرجعيتنا الإسلام.. وما أى فصيل تانى".. ينقل وسام حديث أمه لهم، قبل أن يبتسم وهو يستعيد الذكرى قائلا "سبحان الله.. كان درس فى النية، والفهم، والولاء والبراء، وكان قبل أن تنشأ حركة حماس أصلا..".
تتسع ابتسامته قائلا "الغريب إنه كما يبدو كان قلبها حاسس.. حتى إنها ما كادت تنهى حديثها وتأخذ منا العهد على ذلك حتى اقتحم الجنود الصهاينة الدار وأكلنا يومها قاتلة تمام (أى نالوا نصيبا وافرا من الضرب على يد الجنود).. فكأنها كانت تضن بنا إلا أن نكون فى سبيل الله".
هذا إذا هو المنهج فى مدرسة "أم نضال".. فحق لها أن تخرج 3 من الأساتذة فى هذا الفن.. لم يكتفوا فقط بأن يكونوا مجرد شهداء بل أبوا إلا التخصص فى فن الشهادة بفروعه المختلفة.
محمد.. أول شهداء الخنساء
خامس الأبناء الرجال وأول شهدائهم.. الأكثر شبها بك أماه، ماجستير فى فن "العمليات"، التحق بالدراسة منذ سنى عمره الأولى.. فتلقى العلم على يدى أسد الكتائب عماد عقل، الذى عرف عنه عشقه للعمليات المباشرة، فما كان يبعده عن أعدائه خلالها إلا بضعة أمتار، يتخذ مجلسه دوما بين نضال ومؤمن وحسام ووسام وعماد.. ينصت جيدا لحديثهم، يخرج مسرعا من الدار ليغيب بعض الوقت ثم يعود حاملا شيئا مما يحمله الأطفال من الحلوى.. يضعها على الطاولة بغير اهتمام قبل أن يندفع إلى غرفة أستاذه ليقف بين يديه كما هدهد سليمان.. "أتيتك من عند الصهاينة بنبأ يقين.. لهم دورية تمر من الشارع كذا.. يوم كذا.. فى توقيت كذا.. وتضم عدد كذا من الضباط والجنود.. فمتى نلاقيهم بما يستحقون؟".
تعلو الوجه القسامى لأسد الكتائب ابتسامة رضا عن تلميذه الصغير وقدرته على التمويه ودقته فى الرصد.. يربت على كتفيه ويقبل رأسه مهدأ بعض الشىء من حماسته "جزاك الله خيرا يا محمد.. قد أديت ووفيت.. دع الباقى لنا والله المستعان.. فقتل الصهاينة عبادة نتقرب بها إلى الله".. يطأطئ محمد رأسه فى حزن وينصرف وفى حلقة غصة وقلبه سؤال "متى يأتى دورى لأواجههم وأنال نصيبى من تلك العبادة؟".. لم يكن يدرى أنها بضع سنوات فقط ليصبح أحد أئمتها وراهبا فى صومعتها..
يستحث الفتى الوسيم خطى الزمن.. يدخر كل ما يستطيع من مال قليل حتى يفاجئ إخوته بأنه يستطيع الآن شراء بارودة، وبالفعل يحصل عليها.. يعانقها.. يتحسس أجزاءها برفق العاشقين وحنان الحالمين.. يسحب أجزاءها بتمكن خبير.. تلتحم أنامله المتقدة شوقا بزنادها البارد.. تتحد نظرته الثاقبة بمسار فوهتها الذى لا يخطئ هدفه.. ويعلم آنذاك أنه بدأ الطريق الحقيقى نحو غايته.. وعِشق كل من تربى فى مدرسة أم نضال.. "الشهادة فى سبيل الله".
بين أركان الغرفة المزدحمة بنزلائها.. وبعيدا عن أعين الرقباء.. يتلقى أحد الإخوة اتصالا من نضال ينبئه فيه أن محمد الذى تركته طفلا قد صار شابا يافعا، والحمد لله وجدنا له "عروسا".
لم تش ملامح الأخ الأسير بالبركان الذى انفجر بداخله من المشاعر المتداخلة.. الدهشة من سرعة مرور الزمن.. الفرحة بالشقيق الذى غادره طفلا وهو الآن رجل يسير بخطى ثابتة نحو المصير الذى يذوبون جميعا شوقا إليه.. الألم الذى يعتصر فؤاده، كون قيود الأسر تحول بينه وبين أن يودعه فى لحظاته الأخيرة، ويضمه فى صدره؛ عسى يرتوى قلبه منه، فيتصبر به على ألم الفراق.. الحزن لأنه لن يستطيع أن يزفه بنفسه إلى عروسه من الحور العين.. الإشفاق على والدته التى يعلم رغم عمادتها لمدرسة الفداء والتضحية أنها أحن وأرق الأمهات وأكثرهن حدبا على أبنائها..
فلتهدأ يا قلب.. ولتتجمدِ أيتها الدموع فى العيون.. ولتكتم أيها اللسان عنا هذا السر.. حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا..
أما الأخ الثانى ففى حياء يطرق بابها... يأتيه الصوت الحنون من الداخل "تعال ياما.. فوت".. يجلس بين يديها.. تلمح بعينيه بريقا تعرفه جيدا.. إنه يخطط لعملية جديدة.. ويجيبها أن "نعم".. فى لحظات يسرد التفاصيل.. ثم ينظر فى عينيها مباشرة ويقول "وقد رشحت لتنفيذ هذه العملية.. محمد".. يتألق وجهها بالرضا.. تومئ إليه بوقار قائلة "توكل على الله.. الله يسهل عليكم ياما".
يجلسان معا أمام شاشة التلفاز.. يعتقد الناظر للوهلة الأولى أنهما كأى شقيقين يتسامران وهما يشاهدان فيلما أو مسرحية.. ولكن لا.. هناك من البشر بيننا من ترفعوا عن هذه السفوح ولم يرضوا عن القمم بديلا.. من شغلوا فى الحياة بالطريق إلى الجنة.. فها هما الشهيدان يجلس كبيرهما ليشرح لشقيقه كيف سيلتقى "عروسه" المرتقبة.. عذرا.. بل كيف سينفذ "عمليته" المرتقبة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.