خنساء الماضى هى تماضر بنت عمرو السلمية ولدت 575م، وتوفيت سنة 24هجرية/ 645م، ولقبت بالخنساء بسبب ارتفاع أرنبة أنفها، ولقد اشتهرت فى الجاهلية بأعظم مرثية شعرية لأخويها صخر ومعاوية اللذين قُتلا فى الجاهلية، قال عنها النابغة الذبيانى: "الخنساء أشعر الجن والإنس"، وذلك بعد أن سمع قصيدتها فى رثاء أخيها صخر؛ حيث قالت: قذى بعينك أم بالعين عوار أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار كأن عينى لذكراه إذا خطرت فيض يسيل على الخدين مدرار وإن صخرا لوالينا وسيدنا وإن صخرا إذا نشتو لنحَّار وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا وإن صخرا إذا جاعوا لعقَّار وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم فى رأسه نار جلد جميل المحيا كامل ورع وللحروب غداة الروع مسعار حمَّال ألوية هبَّاط أودية شهَّاد أندية للجيش جرار نحَّار راغية ملجاء طاغية فكاك عانية للعظم جبار وقد جادلها حسان بن ثابت -رضى الله عنه- فى الجاهلية فقال لها: أنا أشعر منك ومن الأعشى، فطلب منها النابغة أن تجادله، فسألته: أى بيت هو الأفضل فى قصيدتك؟ فقال: لنا الجفنات الغُر يلمعن فى الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فقالت له: إن فى هذا البيت سبعة من مواطن الضعف، قال: كيف؟ فقالت الخنساء: الجفنات دون العشر، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت: "الغُر" والغرة بياض فى الجبهة، ولو قلت: "البيض" لكان البياض أكثر اتساعا، وقلت “يلمعن”، واللمعان انعكاس شىء من شىء، ولو قلت “يشرقن” لكان أفضل، وقلت: "بالضحى" ولو قلت: "الدجى" لكان المعنى أوضح وأفصح، وقلت: "أسيافا" وهى دون العشرة، ولو قلت “سيوفا” لكان أكثر، وقلت: "يقطرن" ولو كانت "يسلن" لكان أفضل، فلم يجد حسان كلمة يرد بها. وقد أسلمت الخنساء مع قومها فاشتد بكاؤها على أخويها بعد إسلامها، ولما سئلت قالت: كنت أبكى لهم من الثأر، واليوم أبكى لهم من النار، وفى موقعة القادسية خرجت مع المسلمين فى جيش عمر –رضى الله عنه- تقاتل مع أبنائها الأربعة، وهم: عمرة، وعمرو، ومعاوية، ويزيد، وقبل بدء القتال أوصتهم فقالت: يا بَنى لقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذى لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم.. إلى أن قالت: فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجعلت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة. وعندما دارت المعركة استُشهد أولادها الأربعة واحدا بعد واحد، ولما بلغ الخنساء خبر مقتل أبنائها الأربعة، قالت: الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته. كما غيَّر الإسلام دمع الحزن من الثأر فى الجاهلية لدى الخنساء إلى دمعات خشية على أخويها من النار، وحول الإسلام العظيم شعرها المدرار فى رثاء أخويها إلى كلمات من نور؛ تحفيزا لأبنائها أن يصبروا فى القتال، وأن ينازلوا الأبطال ليخوضوا غمار الحرب بالله مستنصرين؛ أملا أن يظفروا بالشهادة والكرامة فى دار الخلد والمقامة، ولما قُتل أبناؤها الأربعة كان ردا عكسيا لبكائها على أخويها؛ إذ تحول إلى فرح أن قدمت أولادها شهداء أوفياء كرماء أنقياء، وحمدت الله على تشريفه لها بقتلهم شهداء، وهى الأم الحنون لم تنس قلبها فدعت ربها أن يجمعها بأولادها فى مستقر رحمته. وكأنى اليوم مع خنساء العصر مريم فرحات أم نضال تعيد إلينا ما قاله الشاعر السموأل: إذا سيد منا خلا قام سيد قئول لما قال الكرام فعول فها نحن اليوم أمام حالة فريدة فى تاريخنا المعاصر، إنها السيدة مريم محمد يوسف فرحات التى وُلدت سنة 1369ه / 1949 بحى الشجاعية فى مخيمات الأبطال الفلسطينيين، ولديها من الإخوة عشرة، ومن الأخوات خمس، تفوقت دراسيا، ونجحت عائليا فى تربية ستة من الأبناء وأربع من البنات، وكانت ناجحة رائدة فى التدريس فى مدرسة الزهراء، ورائدة فى العمل السياسى فى المجلس الفلسطينى الوطنى، وترملت بعد وفاة زوجها وعاشت للجهاد وللقتال، وصناعة النساء والرجال، وخوض المعارك بكل صبر واستبسال، وقدمت بيدها ثلاثة من أولادها إلى الشهادة واحدا بعد الآخر، أولهم نضال الذى كان أول من صنع صاروخا فى تاريخ الكفاح الفلسطينى ضد العدو الصهيونى، وقد حدثتنى مشافهة فى بيتها العامر فى غزة، فقالت: صنع ولدى الصاروخ وكنت أتابعه يوما بيوم، وأستحثه أن تنتقل المقاومة من الحجر إلى السكين ومنه إلى البندقية والصاروخ والطائرة الحربية، فلما أتم ولدها نضال صناعة أول صاروخ جاءها قبل غيرها مبشرا إياها باكتمال خطته بتيسير الله له أن يصنع الصاروخ الأول فى تاريخ الحرب على الصهاينة، صناعة مائة بالمائة فى أرض فلسطينالمحتلة، فاحتضنته ولم يكن بينهما إلا هذا الصاروخ الوليد "الصاروخ القسامى"، ثم ذهب به بعد أمه أولا إلى أبيه فى التربية والتضحية والبطولة والجهاد: الشيخ أحمد ياسين -رحمه الله- واستأذنه أن يطلقه على الكيان الصهيونى، وكانت المفاجأة! من بيت أم نضال تغيرت موازين المعارك والقتال، فمن صاروخ القسام الذى صنع على يد نضال وأم نضال تطور الصاروخ إلى 75 كم ليصل إلى العمق الصهيونى فى 2012م فى حرب سميت حجارة من سجين ليصل إلى 200م فقط من وزارة الدفاع الصهيونية، و300م من الكنيست الصهيونى، ودخل الصهاينة فى تل الربيع "تل أبيب" كالجرذان إلى جحورهم! ولم يتوقف نضال عند صناعة الصاروخ الأول، بل أصر أن يكمل المشوار ليصنع طائرة بلا طيار؛ لكى تحمل المتفجرات وتهبط منفجرة فى المواقع الإستراتيجية فى بنى صهيون، لكنه قتل بانفجار جزء من طائرة صهيونية كانت قد فخخت له بواسطة أحد الخونة، واستقبلت أم نضال خبر استشهاد ولدها بالصبر الجميل، والفرح الجزيل أن أكرم ولدها نضال بالشهادة؛ أملا أن يكون فى أعلى عليين فى الجنة، ودفعت ببقية أولادها الستة إلى كتائب القسام، وألبست بيدها محمد ورواد لبسة الحرب، وحمَّلتهم سلاح الضرب، وشجعتهم بكلمات الإيمان، والصبر والإقدام، والاستعداد للقاء الرحمن، والعرس فى أعلى الجنان، وذهبا أمام ناظريها وهى تعلم أنها لن تراهما إلا فى دار الخلد. وهاهم بقية أولادها (حسام ووسام ومؤمن) أسودا فى الميدان، ورجالا يحملون أمانة مشروع تحرير الأسرى والأقصى والقدس وفلسطين بكل إخلاص وتجرد ورجولة ومروءة وفتوة وحمية مستمدة من فيض الرحمن، ثم من هذه الأمومة الراقية القوية الفتية على أعداء الله، النقية الندية على المجاهدين والمرابطين أنصار الله، وبناتها الأربع يحملن الرسالة ويؤدين الأمانة بكل قوة وبسالة، فإذا دخلت البيت فهو بيت الجهاد والاستشهاد، بيت تفاجئك فيه أول ما ترى أم نضال -رحمها الله- تدهش، النور الربانى يكسو وجهها، فلا تستطيع أن تطيل النظر إليها حياء وتقديرا واحتراما، ثم ترى بسمة رائقة فيها لمسة من الحزن على أحوال أمتنا، وفيها نسمة من الأمل على مستقبل جهادنا لنصل إلى تحرير كامل التراب الفلسطينى بإذن الله، وننطلق منه إلى أمة القيادة والريادة والشهادة على العالمين، فإذا تكلَّمت أم نضال فلا تسمع إلا أرفع المقال، وكأن قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِى أَحْسَنُ) [الإسراء من الآية:53]، قد تجسد فى كلماتها الطيبات، وتشعر أنها ذائبة فى حب الله، هائمة فى حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفعمة بحب الجهاد والشهادة فى سبيل الله، وتلحظ فيها شخصيتين فى روح واحدة، فهى شديدة التواضع والذلة للمؤمنين، شديدة الحدة على الصهاينة والظالمين، وكأنما فطرت من ربها على قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة من الآية54]. وأشهد الله أننى ما وجدت حنانا وحبا وتقديرا بعد وفاة أمى مثلما وجدته من أمى أم نضال -رحمهما الله تعالى- وقد قالت أم دعاء -صديقتها الحميمة-: ما أبكانى وأشجانى نقلا على لسان أم نضال: "والله لقد دخل علىّ الكثير، فما وجدت أحدا أحدِّثه كما أحدِّث "ولدى نضال" مثل صلاح سلطان"، وقد نقل إلىَّ ولدها حسام مثل هذا مرارا، وقد كانت أول امرأة تتصل بى بعد عدد من البرامج الفضائية، شاكرة فى أدب جم، مقدرة فى حب متدفق، كنت به مغتطبا سعيدا؛ لأنه من أمى الربانية أم نضال. ولما كنت فى غزة هاشم كان يحلو لى مع دعواتها الكريمة أن أذهب لأتناول السحور عندها فى رمضان، لكنى لم أكن أذهب جائعا، بل متعلما راغبا فى أن يمسح الله على قلبى بدعواتها، وأن يشد من عزمى بكلماتها، ولما مرضت فى غزة ونقلت إلى المستشفى طلبت أولادها من ساحات الرباط لكى يكونوا بجانبى، فجاءوا يخبروننى أن الأم فى البيت تبكى، فخرجت من المستشفى إلى المسجد أولا، ثم ذهبت إلى بيتها مباشرة أطمئنها علىّ، فلم أر إلا عينا باكية مشفقة، كأنها حقا أمى التى ولدتنى!. وكم حزنت أن أتأخر عن جنازتها، لكنى استرجعت روحها، وقلت: لو كانت أمى أم نضال حية وسألتها أن أترك لقاء هو لله أولا، ثم لمصر ثانيا، ثم لاستثمار واسترداد الأوقاف المسلوبة ثالثا، فى لقاء مع رئيس الوزراء د.هشام قنديل، والعالم الربانى وزير الأوقاف الشيخ د.طلعت عفيفى، والقائد الربانى العالم المهندس د.محمد على بشر، وزير التنمية المحلية، وآخرين من الوزراء والوكلاء، وصبَّرت نفسى تقديما لمصلحة أمتى وبلدى، وخرجت من مجلس الوزراء مباشرة إلى غزة هاشم، ووصلت فى العاشرة ليلا، وتوجهت إلى أبى العبد إسماعيل هنية -دولة رئيس الوزراء- لأقدم له العزاء، فوجدته بين آلاف الشباب جاءوا من كل بلاد العالم فى مؤتمر حاشد تحت عنوان: "دور الشباب بعد الربيع العربى فى خدمة القضية الفلسطينية"، وتوجهت مع أخى أبى العبد وأخى المجاهد صفوت حجازى إلى الأسير المحرر أيمن الشراونة، الذى كان قد جاء لتوه منذ خمس دقائق من السجون الصهيونية بعد إضراب عن الطعام 260 يوما لم يأكل طعاما قط، ولم يشرب إلا الماء ونزل وزنه 50 كيلو جراما، وحدثنا فقال: لقد كان يضع الصهاينة دائما أشهى الطعام أمامى، ومارسوا كل الضغوط، وصبرت وصابرت واحتسبت، لكن المفاجأة أننى عندما انحنيت لأقبِّل يده ورأسه حبا وتقديرا، فقام من رِقدته ليقبل يدى ويعصرها كأنه أسد جاء من الميدان، فقلت: حقا إن فيها قوما جبارين، وإنهم لِبَنِى صهيون لغائظون، وأيقنت أن أبى فى الله الشيخ أحمد ياسين وأمى فى الله أم نضال، قد تركوا وراءهم أعظم الرجال وأصلب الأبطال، وسوف تقرُّ أعينهم بتشريد الصهاينة الأنذال مغادرين أرض فلسطين يجرون الأذيال من الخزى والهزيمة والعار. وذهبت بعدها إلى البيت العامر بيت أم نضال لألقى أولادها يبتسمون للقدر الربانى، وكأنهم قد تيقنوا أن أمهم لم ترحل، وإنما انتقلت من دار الفناء إلى دار الخلد، ومن عيش الأرض إلى جوار الله تعالى، استئناسا بقوله عز وجل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [آل عمران: 169]، ولا غرو أنها كانت فى مصر تعالج ثم رأت رؤيا كما حدثنى ولدها حسام أنها رأت الشهيد عماد عقل الذى تربى فى حضنها وقتل أمام بيتها، وسمت حفيدها من نضال عماد عقل، قد جاءها فى المنام، وقال لها: أريد أن أراك فى غزة، فأيقنت أنها سترحل إليه من بوابة غزة رمز العزة، فأصرَّت أن تعود فى اليوم التالى، وهى التى كانت -ويشهد الله- تقول نثرا وشعرا فى حب مصر وأهلها وقيادتها الآن. رحم الله خنساء الماضى تماضر بنت عمرو وخنساء الحاضر أم نضال فرحات، وأملنا أن تكون النساء اليوم مثل خنساء الماضى والحاضر، وأن يكون الرجال مثل أولادهم عمرة، وعمرو، ومعاوية ويزيد، ونضال، ومحمد، ورواد، وحسام، ووسام، ومؤمن، وكرام الشهداء والمرابطين. معا على طريق الجهاد.. فإما النصر أو الاستشهاد.