ما زلت أذكر صديقى الشاب الذى جاء شاكيا من أن والد الفتاة التى تقدم لخطبتها قد رفض ارتباطه بها، ولما كنت أعلم أنه مهندس من أسرة محترمة وميسور الحال، فقد كنت حريصا على معرفة سبب الرفض، الذى كان بمنزلة الصدمة لى، فوالد الفتاة لا يأمن على وجود ابنته مع شاب يعمل فى شركة خاصة، ويرى أن فى ذلك نوعا من عدم الاستقرار، الذى تؤمنه الوظيفة الحكومية، أو العمل فى إحدى الشركات الكبرى. والآن.. وبمنتهى الجدية، أتوجه إليكم جميعا أعزائى القراء لأتساءل: ماذا لو تقدم للزواج من ابنتك خريج هندسة أو طب ولكنه يعمل فى التجارة بعيدا عن تخصصه؟ هل يعد ذلك نقيصة فى حقه؟ أم نقطة تضاف لرصيده؟ ثم دعونا نتساءل مرة أخرى: هل لديك استعداد بعد حصولك على الشهادة الجامعية أن تعمل فى مطعم؟ أو تغسل صحونا فى فندق؟ بالطبع ستكون الإجابة عن السؤال بالرفض القاطع؛ لأن هذه الوظيفة لا تتناسب مع مؤهلك الذى تعبت كثيرا حتى حصلت عليه. والآن.. دعنى أكرر السؤال نفسه مرة أخرى، ثم أُضف إليه: ماذا لو طلب منك القيام بتلك الأعمال فى دولة أوروبية؟ عندئذ أتوقع أن إجابة الكثير من الشباب ستتغير، ويصبح الرد الجاهز: ما المانع إذا كان المقابل جيدا! إذن فالسبب الحقيقى لامتناع الكثير من الشباب عن العمل فى غير تخصصه، أو العمل فى وظيفة يراها المجتمع غير مناسبة، ليس هو المقابل المادى، وإنما السبب الرئيس يرجع إلى التفكير النمطى الذى يميز المجتمع؛ فالشاب بعد إنهائه تعليمه لا يميل إلى المخاطرة، ويحب أن يسير على الأفكار نفسها التى سار عليها أجدادنا، فإذا سألت طفلا صغيرا: ماذا تحب أن تكون وظيفتك فى المستقبل؟ فستكون الإجابة عن الفور: أحب أن أعمل طبيبا أو مهندسا أو ضابطا، وهذا يؤدى إلى تشكيل ضغط على الطفل الذى ينشأ من صغره على ضرورة امتهان واحدة من تلك المهن، رغم أنه قد يملك قدرات أفضل فى مجالات أخرى، ولكن كلياتها يتم الالتحاق بها بمجموع أقل، وقد تكون النتيجة طبيبا فاشلا أو مهندسا فاشلا. المشكلة الكبرى لا تكمن فى توفر فرص العمل بقدر ما هى مرتبطة ببعض الأفكار التى تحتاج إلى تغيير، ويجب أن نعترف بأننا ما زلنا أسرى لأفكار من نوعية الوجاهة الاجتماعية، والمكانة الوظيفية، فخريجو كليات الطب والهندسة والسياسة فى مجتمعاتنا يرفضون العمل فى مجال آخر غير مجال التخصص، وهذا من المستحيل تطبيقه إذا أردنا القضاء على مشكلة البطالة، ومن ثم فإن الخروج من القيد هو الحرية، هناك كثير من الشباب يعانى من سجن أفكاره، وهذا السجن هو الوظيفة والعمل داخل الجهاز الحكومى للدولة، خاصة أن مرحلة الشباب فى حياة الإنسان تعنى القوة والعطاء، فى حين أن العمل الحر أهم وأجدى لتنمية مجتمعنا اقتصاديا. إذا بحثنا عن أنواع الشباب فسنجد أنها لن تخرج عن واحد من ثلاثة: الأول لا يحب المخاطرة، لذلك تجده متمسكا بالبحث عن وظيفة حكومية، والثانى تجده لا يحب الحياة الروتينية، لذلك فهو يمَل العمل فى مكان واحد وموعد منتظم، ويؤدى ذلك إلى أنه يتنقل بين العديد من الوظائف دون استقرار، أما النوع الثالث فهو الإنسان الوسطى الذى يجمع بين هذا وذاك، وغالبا ما يكون هو الشاب الناجح؛ لأن الإنسان غير المغامر هو شخص مستكين لا يحب التطوير لذلك تجده "محلك سر"، أما المغامر فقد يكسب كثيرا، ولكنه يخسر أكثر؛ لأنه بطبعه غير ملتزم، لكن النوع الثالث هو الذى يؤمّن نفسه قبل المغامرة. السعى على الرزق مطلوبٌ؛ ولكن أن يجلس الشاب فى بيته ينتظر الفرج، أو يبحث عن الواسطة من أجل العمل فى شركة بترولية، أو جهة حكومية، وحجته فى ذلك أن هذه الوظيفة لا تناسب تخصصه، أو أنه يريد عملا مكتبيا، فهذا هو العيب بنفسه؛ لأن سوق العمل الآن أصبحت معقدة للغاية، فبينما يشتكى الكثير من الشباب من عدم توفر فرص العمل، تجد أصحاب الشركات أيضا يشتكون من عدم وجود أصحاب الكفاءات والخبرات المهنية المتميزة. هل تذكرون شخصية "الباشا" التى جسّدها الفنان الراحل أحمد مظهر فى فيلم "الأيدى الناعمة"؛ عندما أصر على أن يعيش فى ذكرى الماضى حينما كان غنيا، وظل يرفض الاعتراف بالواقع الجديد، الذى صار فيه فقيرا وأصبح واجبا عليه الخروج للبحث عن عمل، وكان سبب رفضه هو الوهم المسمى تقاليد المجتمع، وتأتى النهاية عندما بدأ الجوع يهدده، وهو ما اضطره إلى الاستسلام للأمر الواقع؟! فهل ستنتظر عزيزى الشاب حتى تصل إلى مرحلة الجوع التى وصل لها الباشا؟ أم تستوعب الدرس وتتخذ القرار مبكرا؟ وفى النهاية أذكرك عزيزى بتلك المقولة المأثورة: "إذا لم تفعل ما تحب، فأحب ما تفعل".