بعد أن فقد المصريون الثقة في عملتهم.. الفضة تزيح الذهب من عرش الادخار لم يعد المصريون، خاصة من الطبقة الوسطى وصغار المستثمرين، يثقون في الجنيه الذي تهاوى تحت حكم المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي، فصاروا يبحثون عن أي وسيلة تحفظ ما تبقى من قيمة مدخراتهم الصغيرة. وبعد أن أصبح الذهب حلماً بعيد المنال، وجد كثيرون في الفضة ملاذاً جديداً للاستثمار الآمن، الأقل كلفة والأكثر ربحاً، في ظل انهيار القوة الشرائية للجنيه وتآكل المدخرات.
صعود قياسي للفضة.. والذهب يتراجع إلى المركز الثاني
شهدت السوق المصرية خلال أكتوبر 2025 قفزة تاريخية في أسعار الفضة لم تشهدها منذ أكثر من أربعة عقود، إذ تجاوز سعر الغرام 95 جنيهاً للبيع، مقابل 51 جنيهاً فقط مطلع العام، أي بزيادة تقارب 80% خلال عشرة أشهر، متفوقة بذلك على الذهب الذي لم يتجاوز معدل ارتفاعه 40%.
ويمتد هذا الصعود إلى السوق العالمية أيضاً، حيث قفز سعر الأونصة في بورصة لندن إلى 52 دولاراً، بعد أن كان أقل من 29 دولاراً في يناير الماضي، مدفوعاً بتراجع الدولار عالمياً وزيادة الطلب الصناعي من قطاعات الطاقة المتجددة والإلكترونيات الدقيقة، في وقت تراجع فيه إنتاج المناجم الكبرى في أميركا اللاتينية.
انهيار الثقة في الجنيه يدفع المصريين إلى "الملاذ الفضي"
يرى خبراء الاقتصاد أن الإقبال المتزايد على الفضة في مصر انعكاس مباشر لفقدان الثقة في الجنيه، بعد سنوات من التدهور المتواصل، حيث تجاوز الدولار حاجز 47.7 جنيهاً، بينما يتوقع محللون أن تشهد السوق الموازية مستويات أعلى بكثير مع استمرار العجز في موارد النقد الأجنبي.
ويقول جورج ميشيل، رئيس نقابة الصاغة بالقاهرة، ل"العربي الجديد"، إن الفضة استفادت من ضعف الدولار أكثر من الذهب لأنها سلعة استهلاكية وصناعية في الوقت نفسه، مضيفاً: "الفضة عادت لتتألق، لا كزينة للنساء فقط، بل كأداة استثمارية حقيقية تنافس الذهب في العائد والربح".
الطبقة الوسطى تبحث عن "أمان مفقود"
في أحياء القاهرة الشعبية، من الحسين إلى السيدة زينب، يتسابق صغار المستثمرين والهواة على اقتناء سبائك الفضة بأوزان صغيرة تبدأ من 10 إلى 1000 غرام، مختومة من مصلحة الدمغة والموازين. ويقول أحد التجار إن الإقبال تضاعف في الشهرين الأخيرين، موضحاً أن الشباب خصوصاً يعتبرونها استثماراً متاحاً للجميع، "فيمكنك أن تبدأ بسبيكة ب1800 جنيه فقط، بينما لا يكفي هذا المبلغ لشراء غرام واحد من الذهب".
ويشير إلى أن الطلب يتركز على السبائك والقطع الخام أكثر من المشغولات، لأنها لا تتحمل "مصنعية" تقلل من الربح عند إعادة البيع، فيما أصبحت بعض الورش الصغيرة تعرض منتجات فضية "للاستثمار وليس للزينة".
من الجنيه إلى الفضة.. رحلة الخوف من الانهيار
يؤكد خبراء أن ما يجري في سوق الفضة يعكس انهيار منظومة الثقة في العملة الوطنية، التي كانت يوماً تنافس الدولار والجنيه الإسترليني قبل أن تطيح بها سياسات العسكر منذ انقلاب 1952، وتحديداً في عهد السيسي الذي جعل المصريين "غرباء في اقتصادهم"، يلجأون إلى أي وعاء بديل عن الجنيه.
ويقول محمد السيد، أحد هواة جمع العملات الفضية القديمة، إنه بدأ منذ عامين في شراء العملات والسبائك الفضية شهرياً كادخار آمن، مضيفاً أن من اشترى الفضة في يناير الماضي بسعر 51 جنيهاً للغرام يحقق اليوم ربحاً يقارب 40 جنيهاً في الغرام الواحد، أي نحو 78% مكسباً خلال عشرة أشهر فقط.
ويضيف: "لم أعد أثق في الجنيه ولا في البنوك، الفضة اليوم هي سندي الوحيد في وجه الغلاء".
المتاجر الإلكترونية تزدهر.. والفضة تدخل بيوت المصريين
لم يتوقف الإقبال على محال الصاغة فحسب، بل امتد إلى المنصات الإلكترونية التي أصبحت تبيع سبائك فضية صغيرة تُسلّم إلى المنازل. ويؤكد أصحاب تلك المتاجر أن المبيعات تضاعفت ثلاث مرات منذ يونيو الماضي، بعد أن لاحظ الناس أن الفضة ترتفع أسرع من الذهب.
"عام الفضة".. دلالة على انهيار المنظومة الاقتصادية
يرى محللون أن تحول الفضة إلى ملاذ شعبي يعكس حالة الفزع الاقتصادي التي يعيشها المصريون نتيجة سياسات الجباية والتوسع في الديون وتبديد الاحتياطي النقدي في مشروعات استعراضية. فحين يصبح المعدن الأبيض "عملة ظل" للجنيه، فإن ذلك يعني أن المواطن فقد ثقته الكاملة في حكومته ونظامه المالي.
ويختم أحد المحللين بالقول:
"الفضة لم ترتفع لأن مصر قوية، بل لأنها تنهار.. فحين يهرب المواطن إلى المعادن، فاعلم أن الدولة لم تعد تملك ما يحمي عملتها."