لم يكن تقرير الطب الشرعى حول ملابسات وفاة الناشط السياسى محمد الجندى هو آخر التقارير التى أثارت جدلا لدى الرأى العام والمتخصصين؛ فقد سبقته تلك الحالة ابتداء من عام 1981، وبالتحديد تقرير استشهاد كمال السنانيرى -القيادى البارز بجماعة الإخوان المسلمين، مرورا بتقرير مقتل الجندى المصرى البطل سليمان خاطر، ثم تقرير وفاة يوسف أبو زهرى -شقيق القيادى فى حركة حماس سامى أبو زهرى، وأخيرا التقرير الطبى الخاص بوفاة خالد سعيد. هذا الجدل الذى يحيط بتقارير الطب الشرعى دفعنا للبحث فى خط سير التقرير الشرعى.. من يكتبه وما مراحله؟ وهل يتعرض الأطباء الشرعيون لأية ضغوط لتغيير التقرير حول حقيقة الوفاة أو يأخذون تحقيقات النيابة فى خط محدد؟ ذهبنا إلى مصلحة الطب الشرعى لنتعرف على الطبيعة، ومن خلال الأطباء المتخصصين، كيف تتم كتابة التقرير وماذا يتضمن ومدى حياده وأمانته. بداية، فإن الطب الشرعى هو أحد فروع الطب الذى تستعين به جهات التحقيق فى الحالات الجنائية، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالقانون، لأنه علم يهتم بدراسة العلاقة بين الوقائع الطبية والنصوص القانونية، وأول من أدخله فى مصر هو "محمد على باشا" للكشف عن الجرائم، وتم تأسيس مصلحة الطب الشرعى فى مصر عام 1820 فى عهده. أما الهيكل العام للمصلحة، فتم تشكيله عام 1928 تحت إشراف الطبيب الإنجليزى سيدنى سميث -كبير الأطباء الشرعيين فى مصر آنذاك- وتتبع مصلحة الطب الشرعى وزارة العدل الآن ويعرض عليها سنويا أكثر من 160 ألف قضية للفصل فيها. والطب الشرعى لا يختص بالكشف عن حالات الوفيات وتشريح الجثث فقط، لكن مجالاته كثيرة ومتعددة ويوجد به العديد من التخصصات أبرزها الطب الشرعى القضائى الذى يهتم بدراسة العلاقة بين الطب الشرعى والقضاء ويتفرع منه الطب الشرعى الجنائى وذلك لدراسة الآثار التى يتركها الجانى فى مسرح الجريمة والطب الشرعى العام والطب الشرعى الجنسى والذى يقوم بدراسة الجرائم الجنسية مثل الاغتصاب وهتك العرض، ومنه أيضا الطب الشرعى الذى يهتم بدراسة الصدمات والكدمات والاختناقات، والطب الشرعى الخاص الذى يهتم بدراسة جثة المتوفى وعلامات الموت الموجودة بجسده إضافة إلى الطب الشرعى الميدانى والمعملى والتزييف والتزوير والمعامل الكيماوية. دورة تقرير الطب الشرعى وتقرير الطب الشرعى، كما تقول مصادر بمصلحة الطب الشرعى، يحتوى على ثلاثة عناصر أساسية هى "الديباجة" وتعنى شرح اسم الطبيب ووظيفته والمكان والزمان اللذين أجريا فيهما الكشف، ثم "الشرح" ويعنى وصفا كاملا لكل من الكشفين الظاهر والباطن للجثة، أو إصابات شخص موجود على قيد الحياة، وثالث تلك العناصر هو "النتيجة النهائية" وذلك لما شوهد بالجثة أو المصاب وربط ذلك بالشهادات والمعلومات المتعلقة بالإصابة أو سبب الوفاة. ويمر التقرير التابع لمصلحة الطب الشرعى بعدة مراحل حتى يخرج إلى النور؛ فيبدأ بالتقرير المبدئى وهو لا يحتوى على أى تفاصيل فقط ويشتمل على جميع الملاحظات المبدئية التى شاهدها الطبيب بالجثة، وما إذا كانت هناك شبهة جنائية، وتحفظ تلك الملاحظات مع صور فوتوغرافية للحالة فى ملف القضية، ثم يتم مخاطبة النيابة المختصة لإرسال مذكرة تفصيلية بظروف الواقعة والأوراق الطبية والعلاجية الخاصة بالمجنى عليه إن وجدت، وإرسال جميع الأحراز الخاصة بالقضية سواء كانت ملابس أو أسلحة أو أدوات تم استخدامها وغيرها من الآثار المادية التى تم العثور عليها، ثم تؤخذ عينات من الجثة وترسل جميعها للمعامل الطبية، وهنا ينتظر الطبيب الشرعى لحين ورود النتائج وذلك لأهميتها وأهمية ما تضيفه من الدقة فى كتابة التقرير النهائى. مذكرة تفصيلية بعد ذلك تكتب مذكرة تفصيلية بظروف الواقعة وأوراق العلاج ومشاهدات الطبيب الشرعى من خلال الكشف الظاهرى والتشريح ويكتب الطبيب تقريره النهائى متضمنا جميع التفاصيل، ويكتب فيما يقرب من عشرين صفحة ويوقع عليه كبير الأطباء بالنسخ ويرسله للنيابة المختصة. وإذا حدث اختلاف بين الأطباء قبل أو فى أثناء كتابة التقرير يتم الرجوع للمكتب الفنى لكبير الأطباء الشرعيين، وفى بعض الأحيان تقوم المحكمة برد التقرير مرة أخرى مطالبة بإعادة قراءته بواسطة لجنة فنية وتشكل من لجنة ثلاثية برئاسة كبير الأطباء، والتى تبحث الأمر منذ بداية القضية وحتى التقرير الذى كتب عنها وتشكل هذه اللجنة من مستوى أرقى وظيفيا من الأولى لتكون لجنة مراقبة ومراجعة للتقرير المكتوب والذى ترده المحكمة أو يطعن عليه أهل المتوفى. تقارير مثيرة للجدل وقد أثير فى العقود الماضية جدل حول تقارير الطب الشرعى، بدأ عام 1981؛ حيث صدر تقرير الطب الشرعى الخاص بمقتل "كمال الدين السنانيرى" -القيادى فى جماعة الإخوان المسلمين- والذى اعتقل فى نهاية عهد الرئيس السادات وتوفى فى بداية عهد مبارك فى نوفمبر 1981. وجاء فى تقرير الطب الشرعى أن السنانيرى انتحر بفوطة قام بتعليقها فى كوع الحوض مما أدى إلى وفاته، وشككت جماعة الإخوان فى انتحاره وأكدت أن السنانيرى قتل نتيجة التعذيب وأن رئيسا سابقا لمباحث أمن الدولة متورط فى مقتله. ثم تلاه عام 1985 تقرير الشهيد المجند "سليمان خاطر" الذى قتل 12 إسرائيليا حاولوا اقتحام نقطة مراقبته على الحدود المصرية عام 1985 ثم صدر قرار جمهورى بموجب قانون الطوارئ بتحويل سليمان خاطر إلى المحكمة العسكرية التى حكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة 25 عاما. وفى عام 1986، تم الإعلان أن خاطر انتحر فى محبسه، وجاء تقرير الطب الشرعى مؤيدا لما تم إعلانه والذى جاء فيه أن خاطر انتحر بقطعة من القماش لفها حول عنقه وقام بتعليقها فى شباك الزنزانة، إلا أن أهل سليمان لم يصدقوا كلام التقرير الشرعى وقامت أسرته بطلب إعادة تشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة السبب الحقيقى للوفاة، وتم رفض الطلب. كذلك من أكثر القضايا التى أثارت الجدل كانت وفاة يوسف أبو زهرى -شقيق سامى أبو زهرى المتحدث الرسمى باسم حركة حماس- فى سجن برج العرب بالإسكندرية عام 2009، والذى لم يكن له أى نشاط سياسى سوى أنه شقيق المتحدث باسم حماس. واتهم سامى أبو زهرى جهاز أمن الدولة بتعذيب شقيقه، وقال فى مؤتمر صحفى عقده بعد استلامه جثة أخيه، إن يوسف تعرض للتعذيب الشديد فى مصر وإن آثار التعذيب كانت واضحة على جسده، وشكك سامى فى تقرير الطب الشرعى المصرى الذى صدر بعد وفاة شقيقه والذى جاء فيه أن الوفاة طبيعية. وفى عام 2010، برزت قضية "خالد سعيد" والتى أثير حولها جدل واسع، وجاء تقرير الطب الشرعى أن الوفاة كانت نتيجة "إسفكسيا الخنق" نتيجة وضع لفافة حشيش فى فمه وتغافل التقرير وجود علامة أظافر حول رقبته. وتعليقا على هذه الحوادث، يقول الدكتور عماد الديب -مساعد كبير الأطباء الشرعيين- "إن الأطباء الشرعيين ليسوا مزورين أو مرتشين، والطبيب الشرعى لا يعرف سبب الوفاة بمجرد النظر للجثة، لكنه يأخذ نسخة من القضية ومن تحريات المباحث وشهادة الشهود ويبدأ فى المقارنة بين المكتوب فى فحص الأدلة والأقوال على الجثة التى يبحث فى أسباب وفاة صاحبها". وحول تدخل الشرطة أو أية جهة فى عمل الطبيب الشرعى وممارسة أى ضغط عليهم لتغيير التقارير، يضيف د. عماد قائلا: "لم يقابلنى أى تدخل من أى جهة ونحن ننفذ قرارات النيابة العامة، ولا يمكن للداخلية التدخل فى عملنا وذلك لطبيعة علاقتنا بالمؤسسات القضائية، وأى تقرير يصدر من المصلحة يطلع عليه جميع الأطباء الشرعيين لنضمن عدم وجود فساد فى المصلحة ولتفعيل سلطة المراقبة". من جانبه، أكد أحد الأطباء الشرعيين -طلب عدم ذكر اسمه- "أن مصلحة الطب الشرعى تفتقر إلى كثير من الإمكانيات والوسائل الحديثة والأجهزة العلمية المتطورة التى تساعدها على إجراء التحاليل والفحوصات، إضافة للإهمال حتى فى صيانة الأجهزة المستخدمة، حتى إن عدد الأطباء فى القاهرة والجيزة 5 أطباء فقط مقابل رواتب ضعيفة مقارنة بالمهمة التى يقومون بها. وتابع المصدر "مصلحة الطب الشرعى عانت من إهمال شديد فى العقود الماضية وضعف الإمكانيات وعدم توافر الأجهزة، لكن هذا ليس معناه أننا نخالف ضمائرنا أو أننا نخرج نتائج خطأ، ولكنه يجعل مهمتنا أصعب وتأخذ وقتا أطول". وحول الجدل الدائر حول تغيير تقارير الطب الشرعى، قال المصدر إن الأمر أولا وأخيرا يرجع للضمير وللقسم الذى أقسمناه، وأنا طوال عملى لم يطلب أحد منى تغيير تقارير، والضمير هو الشىء الأساسى فى عملنا، فقد يغير أحد تقريرا ليجامل به شخصا يعرفه وهو أمر لا يتعلق بالدولة ولا الأجهزة الأمنية لكن يتعلق بضمير الإنسان". وأضاف أن هناك نقطة مهمة فى الفرق بين التعامل مع التقارير قبل وبعد الثورة قائلا: "حينما طلبت أسرة المجند سليمان خاطر فى عهد المخلوع إعادة الكشف عليه، وكان من المفترض أن توافق المحكمة على ذلك الطلب وتشكل لجنة ثلاثية من كبار الأطباء الشرعيين لتعيد الفحص، رفضت المحكمة ذلك، لكن الآن حينما يطعن على التقرير تشكل لجنة ثلاثية تكون جهة رقابية لما كتب فى السابق وإذا وجد أى خلل يتم التعامل معه، كما يتم الآن مراجعة التقرير من قبل جميع الأطباء الموجودين فى المصلحة". من جهته، يقول الدكتور محمود السعدنى -أستاذ القانون الجنائى بكلية الحقوق جامعة بنها-: "لا بد من عمل نظام جديد لمصلحة الطب الشرعى فى مصر لضمان حياد الطبيب عند كتابة التقرير، ومنها مثلا عدم إرسال أوراق النيابة له حتى يخرج رأيه بصورة فنية دون أن تكون هناك أى مؤثرات". ويضيف السعدنى "ويحق لأى طرف فى القضية الطعن على تقرير الطب الشرعى، وفى تلك الحالة يتم تشكيل لجنة ثلاثية لإعادة الفحص ومراقبة التقرير، كما يحق للقاضى سماع ومناقشة كبير الأطباء الشرعيين، كذلك إذا كانت قضية مثيرة للجدل فيحق تشكيل لجنة من كلية الطب قسم الطب الشرعى لإعادة الفحص وذلك لضمان نزاهة التقارير". وتابع: وهذا طبعا كله لم يكن يحدث قبل الثورة، بل كان يتم رفض أى طلب لإعادة الفحص أو الطعن على التقرير من قبل المحكمة مباشرة لأن هناك قاعدة أن القاضى هو الخبير الأعلى، ورأيه هو الأخير فى تقرير مدى صحة أو فساد التقرير".