ليس أسهل من الوصول إليه إن لم يكن بسؤال الواقفين والمتجمعين حوله, فسيكون من رائحة الموت التي تملأ منطقة زينهم والتي جعلت من مصلحة الطب الشرعي مكانا مرتبطا في أذهان الكثيرين بأنه مقصد الباحثين عن جثث المفقودين. وغاب عنهم أنه سيف آخر للقضاء يفصل بين الحقيقة والادعاء أو يكشف عن أن المتهم بريء.. أوأن المجني عليه مدان. نتكلم عن مكان ظل سنوات طويلة بعيدا عن الأنظار مغلقا علي نفسه بالعديد من المشكلات والأوجاع وأيضا الأسرار.. لا يبوح بألمه ولا يهتم أحد بأن يعرف شيئا عما يدور بمعامله وغرفه.. وعندما حظي فجأة بالاهتمام تم وضعه في قفص الإتهام, وأعلنها الرأي العام صراحة عدم اطمئنانه إلي أن ثوب الطب الشرعي لم يلوث بدم كذب وأن تقاريره ليست مجردة من الأهواء! حاولنا بجولة في هذا المكان, وبمن أمكن الوصول إليهم من الخبراء والمسئولين أن نقوم بعملية تشريح لمناهجه وقوانينه ومبانيه وأجهزته وتقاريره للوقوف علي أسباب التدهور وإنقاذه من الانهيار. الطب الشرعي مادة يتم تدريسها لطلبة كليات الطب علي مستوي الجمهورية في السنة النهائية فقط وبكم ضئيل للغاية فلا يتجاوز منهجه كتابا أو ملزمة واحدة.. هذا ما قاله لنا الدكتورعلاء غنام مدير عام السياسات بوزارة الصحة سابقا مستنكرا الأسلوب التعليمي لهذه المادة التي تعتبر ضرورة للطبيب العادي كما هي للطبيب الشرعي, لأن طبيب وزارة الصحة يكون مطالبا في أحيان كثيرة بكتابة تقارير طبية حول إصابات أو حوادث وأي موضوعات طبية تتعلق بمشكلات قانونية, فكيف يفعل هذا رغم أنه لم يدرس علم الطب الشرعي إلا علي نحو مهمش جدا ولم يتوافر له التدريب العملي الكافي ؟ أما الطبيب الشرعي يضيف د.غنام فيعتمد في اكتساب خبرته علي الممارسة العملية التي تتاح له بعد تخرجه وعمله بالإضافة لمواصلة الدراسة في التخصص من خلال مرحلتي الماجستير والدكتوراه, ويري أن التشبع العلمي لايكفي من خلال الماجستير ومع ذلك يتم اختيار قيادات للمصلحة من هذه الدرجة العلمية فقط كما كان بالنسبة للسباعي, وبمقارنة الإمكانات التعليمية والعلمية للطب الشرعي بمصر والخارج وصفها بأنها متأخرة للغاية بالنسبة للخارج اختصاصه.. أحياء وأموات الطب الشرعي لا يتعامل فقط مع الأموات بل إن الأحياء لهم النصيب الأكبر سواء كانوا متهمين أو مجنيا عليهم, فقد تستلزم التحقيقات التي تجريها النيابة العامة أو المحكمة توقيع الكشف الطبي علي المجني عليه لتحديد إصاباته وتحديد ما اذا كان قد تخلف لديه بسببها عاهة مستديمة من عدمه أو فحص مقذوف ناري مستخرج من جسد المجني عليه لبيان عياره ونوع السلاح الذي أطلق منه وقد تستلزم التحقيقات كذلك في قضايا المسئولية الطبية فحص حالة المجني عليه لتحديد ما اذا كان هناك خطأ يمكن نسبته للطبيب المعالج من عدمه, وفي قضايا المخدرات يتم فحص عينات من المواد المضبوطة لبيان ما إذا كانت من المواد المدرجة في احد جداول المخدرات من عدمه, كما تحتاج قضايا التزوير والطعون فيها إلي إجراء ما يعرف بالاستكتاب للتحقق من الخطوط والإمضاءات, وهناك قضايا أخري تتطلب فحص الحالة العقلية لمتهم أو مجني عليه, بالإضافة للجانب المتعلق بالأموات وبيان الصفة التشريحية لجثة ما, وتحليل محتويات الأمعاء لمعرفة سبب الوفاة. انتحار سليمان خاطر!! التشكيك في بعض تقارير الطب الشرعي أمر ليس حديثا ولكنه تحول في الفترة الأخيرة لشبه ظاهرة استجمعت الرأي العام في قضايا إلتف حولها الناس بشدة أبرزها قضية الشاب خالد سعيد الذي جاء تقرير الطب الشرعي بابتلاعه لفافة مخدرات صادما ولم يحظ بالتصديق من معظم الأطراف, ولا يزال مثيرا للجدل حتي الآن, كذلك تصريحات الدكتور السباعي( الرئيس السابق للمصلحة) حول الحالة الصحية للرئيس المخلوع مبارك, بالإضافة إلي الخطأ الذي حدث في تسليم جثة لغير ذويها بناء علي تحليلDNA تبين أنه كان خاطئا, عندما اكتشف الأهل أن ابنهم لا يزال حيا! وإذا رجعنا بالذاكرة إلي الوراء فسنجد أمثلة أخري لتقارير لم تحظ بالمصداقية كذلك وهو ما كان موضع انتقادات من المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان, ومنها تقرير الطب الشرعي في قضية المجند سليمان خاطر الذي قتل12 إسرائيليا حاولوا اقتحام نقطة مراقبته عام1985 وبدلا من أن تكرمه الدولة صدر قرار جمهوري بموجب قانون الطوارئ بتحويله إلي المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة25 عاما, وبعدها بعام تم الإعلان عن انتحار خاطر في محبسه, وجاء تقرير الطب الشرعي مؤيدا لما قاله البيان الرسمي الذي جاء فيه أن خاطر انتحر بقطعة من القماش لفها حول عنقه وقام بتعليقها في شباك الزنزانة إلا أن أهل سليمان لم يصدقوا كلام التقرير الشرعي وأكدوا إيمان القتيل وتدينه واستحالة إقدامه علي الانتحار, وقامت أسرته بطلب إعادة تشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة إلا أن الطلب قوبل بالرفض مما أثار الشكوك حول لغز الوفاة. ولعل استمرار حالة التشكيك كان دافعا لاقتحام عدد من أهالي إمبابة الأسبوع الماضي لمقر المشرحة للوقوف بأنفسهم علي عملية تشريح جثث ذويهم, وإزاء حالة الغضب العارمة والثورة الشديدة سمح لهم الدكتور كميل إحسان رئيس المصلحة الحالي بالدخول ومتابعة عملية التشريح وهو ما يعد أمرا مخالفا وغير مسبوق في تاريخ الطب الشرعي. الإستقلالية تضمن الشفافية العاملون بالطب الشرعي يعرفون تشكك الرأي العام في بعض التقارير ويعترفون باحتمالية تعرض البعض لضغوط في كتابة التقارير وكان ذلك من أسباب طلبهم الاستقلالية في مظاهرات شهدتها المصلحة أوائل الشهر الحالي, وكما قالت لي الدكتورة ماجدة القرضاوي مساعد كبير الأطباء الشرعيين ورئيس منطقة القاهرة: المصلحة من الناحية الإدارية تتبع وزارة العدل, وهي كما هو معروف سلطة تنفيذية, بينما الطب الشرعي جهة قضائية فنية تمثل همزة الوصل بين الطب والقانون, والأولي والأصح أن تكون تابعة لمجلس القضاء الأعلي كيلا تصبح هناك شبهة للتواطؤ, أو أي نوع من الضغوط قد يتعرض لها البعض وإن كنت لا أسميها ضغوطا بقدر ما هي استجابة ممن يقبلون مخالفة ضمائرهم. وماهي باقي مساوئ التبعية لهذه السلطة التنفيذية ؟ أجابت محدثتنا: طلباتنا ليس لها أولوية ويتم النظر إلينا علي أننا درجة ثانية,ويكفي الحالة غير الآدمية للمبني وحجراته التي يصل التكدس في إحداها لدرجة35 موظفا, وغرف الفحص الطبي ليست مخصصة لهذا الغرض, فنجد سرير الكشف علي ضحية اغتصاب مثلا في حجرة بها مكاتب للأطباء, بالإضافة للنقص الشديد في الأجهزة المطلوبة, والقاعدة عندهم مادام العمل يسير فلا داعي للتغيير أو التطوير, وينسون أن توافر الإمكانات والأجهزة الحديثة يحقق كفاءة أعلي في العمل ونتائج التقارير, بالإضافة لوضع المشرحة والمبني والأثاث والتهوية خاصة أن التكييف المركزي معطل وإصلاحه يتطلب مبالغ طائلة, وكثير من الغرف بلا منافذ تهوية وهذا كله يتطلب أن تكون للمصلحة استقلالية وميزانية خاصة بها. 43 حالة في الساعة!! وبعيدا عن الانفصال سألناها عن عدد الأطباء وكم القضايا ؟ وكانت الإجابة: علي مستوي الجمهورية هناك150 طبيبا شرعيا, منهم مائة خارج البلاد إما تعاقدات أو كمرافق للزوجة, وهو ما اضطرنا لزيادة العدد ليصبح لدينا في مصر حاليا70 طبيبا شرعيا منهم من لايزال تحت التدريب, ومع قلة عدد الأطباء, يزيد عدد القضايا خاصة بعد الثورة, إذ تجاوزعددها منذ أول العام وحتي الآن علي مستوي منطقة القاهرة وحدها أربعة آلاف قضية, وهذا له مردود سلبي بالطبع علي( كيف) التقارير التي لا تأخذ حقها من الفحص والمراجعة, ويكفي أنه كان مطلوبا من طبيب وقت الثورة أن ينجز تشريح43 حالة وفاة في ساعة زمنية واحدة!! وقلة العدد مرتبطة هنا بزيادة الإقبال علي الطبيب الشرعي المصري,الذي يعتبر الأكفأ والأكثر تفضيلا لدي الدول العربية. قانون الملك فاروق تم تأسيس مصلحة الطب الشرعي في مصر عام1820 في عهد محمد علي, أما الهيكل العام للمصلحة فتم تشكيله عام1928 بمعرفة الطبيب الإنجليزي سيدني سميث كبير الأطباء الشرعيين في مصر آنذاك, وينظم القانون رقم96 لسنة1952 عمل الأطباء الشرعيين في مصر. هذه الحقائق كانت مدخلنا للحديث مع الدكتور أيمن فودة أحد من تولوا قيادة مصلحة الطب الشرعي في مصر لعدة سنوات, قال: لابد من تغيير القانون الذي وضعه الملك فاروق لأنه يمنع إدخال تخصصات مهمة ومطلوبة للعمل بقطاع الطب الشرعي, ومنها تخصص طب الأسنان والطب النفسي الشرعي الذي يؤدي غيابه لعدم القدرة علي إثبات التأثيرات النفسية للجرائم, ويتم الاستعانة بمستشفيات الأمراض العقلية,وعدم القدرة علي التعامل النفسي مع ضحايا الاغتصاب, كما أنه وفقا للقانون الحالي فإن من يفحص الأسلحة والمقذوفات النارية حاصل علي دبلوم فني مع أن المفروض أن يكون خريج علوم قسم فيزياء. أجهزة لتشخيص الاغتصاب الأقسام الطبية الشرعية بالمحافظات إما بداخل المحاكم أو في شقق مؤجرة متهالكة بعمارات وبالتالي فهي لا تصلح للتطوير المطلوب, مشيرا إلي أن ذلك كان موضوع دراسة تقدم بها لوزارة العدل وقت توليه شئون المصلحة, لتقسيم الجمهورية إلي ثماني مناطق طبية شرعية تتوافر بكل منها نفس الإمكانات والمعامل المتوافرة بالقاهرة, ورغم صدور القرار فعلا إلا أنه لم يتم التنفيذ! ويكفي أن نتصور كيف تكون رحلة عينة مطلوب فحصها من إحدي المحافظات إلي المعامل الطبية بالقاهرة وهل يمكن أن نتحدث بعدها عن كفاءة تقارير الطب الشرعي!! فالكفاءة يضيف الدكتور فودة ليست فقط في ضمير ومهنية الطبيب الشرعي وإنما في الأجهزة والإمكانات المعاونة, فتحاليل الحامض النوويDNA علي سبيل المثال, تتم في أوروبا وأمريكا في جو معقم تماما,ولذا فنتائجه لديهم تكون بنسبة100% بينما في مصر حالة الغرف والأبواب والنوافذ تجعل التعقيم حلما بعيد المنال, وبالتالي لا تصل النسبة لهذه الدرجة من المصداقية.