أثار هذا الحديث الذى رواه النسائى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فى نفسى بعض الخواطر النفسية والتربوية، فآثرت أن أضمنها هذا المقال. أولا: إن أعمال الخير تتباين فى عظم الأجر، وكذلك تتفاوت أعمال الشر فى عظم الذنب، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}، ويتم تفسيره بأن الحسنة تختلف عن السيئة فى كل شىء، فهما ليستا متساويتان، أو يفسر بأن الحسنات لا تستوى فيما بينها بل تتفاوت، ومجالها واسع عريض، توجد داخله الحسنة وتوجد الأحسن، وأن السيئات لا تستوى أيضا فيما بينها بل تختلف، ومجالها أيضا كبير ضخم، وتوجد فيه السيئة وتوجد الأسوأ. ثانيا: إن هذا الدين توجد فيه أفعال هى بمثابة المنجيات، ويكفى ثواب الواحد منها لنجاة العبد يوم القيامة، وقد ذكر رسول الله أمثلة لها بقوله: ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم إنى قد غفرت لكم)). وقوله: ((لا يَضُرُّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ)). وبالمثل فإنه توجد أفعال هى بمثابة المهلكات، ويكفى إثم الواحد منها لإهلاك فاعله يوم القيامة، وقد خص منها أن يضيع المرء من يعول، فكان تعبيره عن قدرة الفعل على الهلاك "كفى بالمرء". ثالثا: إن الإنسان مهما حقق من نجاح فى حياته، ومهما بلغت به الشهرة فى مجتمعه، ومهما تألق نجمه فى قومه، ولم يكن أولاده قرة عينٍ له فهو تعيس، أما إذا كان الإنسان هو السبب فى ضياع من يعول فإنه سيكون شقيا فى الدنيا وآثما فى الآخرة، فكم من آباء ضيعوا أولادهم وهم لا يدرون، وكم من رعاة ضيعوا من يرعونهم وهم لا يشعرون، وسواء كان التضييع بقصد أو دون قصد، أو كان المضيع يعلم السبب أو يجهله، فإن رسول الله اعتبر الذى يضيع من يعول آثما إثما كبيرا، فكان تعبيره عن شمول الفعل للإثم "كفى بالمرء إثما". رابعا: ما أيسر خسارة ود الأبناء، وما أيسر كسب ودِّهم، فمن الناس من يظن أن أولاده أحب إليه من نفسه، ثم تجده خفيف الدم، لطيف الكلم، حلو المعشر مع الأغراب، ولكنه ثقيل الدم، عبوس الوجه، متجهم الملامح مع ولده، وتجده مهذبا وظريفا، بسّاما وضحّاكا مع الغرباء، ولكنه حادا وغضوبا مع ولده، وتجده صبورا ويلتمس العذر للناس، ولكنه لوّاما مؤنبا لأهله. خامسا: على الرغم من أن كل أب يعرف أن "الكلمة الطيبة صدقة" وأن "تبسمك فى وجه أخيك صدقة" إلا أنه لا يحرص على لملمة صدقات كثيرة، وجمع حسنات وفيرة بالكلمة الحلوة، والابتسامة العذبة لأولاده وأهله، على الرغم من أنهم أولى الناس بظرفه ولطفه ولباقته وخفة دمه. سادسا: إن تضييع المرء لمن يعول لا يكون إلا نتيجة قسوة القلب، وإن أعظم ما يسبب تلك القسوة أمران: أولهما: ضياع الدين، لذلك كان المشركون يقتلون أولادهم خشية الفقر، أو خشية العار، فأى قسوة أعظم من أن يحفر الأب لابنته حفرة وهى تنفض التراب عن ثوبه، ولا تعلم أنه سيدفنها حيَّة. أما ثانيهما: فهو اتباع عادات البيئة الفاسدة وأعرافها التى تضاد الدين، فتجد أن معاملات أصحاب بعض البيئات لأهليهم جافة خشنة، وهناك بيئات منتكسة الفطرة رغم أنها متقدمة علميا، فتجد أن معاملة أحدهم لكلبه أفضل من معاملته لولده، وبعضهم يحب دابته ويحنو عليها أكثر من حنوه على أبنائه، وبعضهم يحب سيارته ويفضلها على أهله وولده. سابعا: إن التعبير "من يعول" يشمل كل من يؤثر سلوك المرء فى تعليمهم وتربيتهم، أو استقامتهم وانحرافهم، أو سعادتهم وتعاستهم، فيبدأ بمن تجب عليه نفقتهم، وينتهى بالرعية التى يرعاها كل مسئول، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا،... وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). ثامنا: إن أسباب التضييع متعددة ومتباينة، فقد يكون سبب التضييع جهل الراعى أو تركه من يعول جاهلا، أو حمقه وسذاجته أو تعليمه من يعول الحمق والسذاجة، أو غباءه، أو تزكية الغباء لدى من يعول، أو عناده أو دفعه من يعول للعناد والمكابرة، أو مكره بمن يعول، أو سكوته وخنوعه وسلبيته، أو إيحاؤه لمن يعول بأنه ضائع لا محالة، أو نقده المتكرر له، أو هزيمته النفسية التى تدفعه لعدم محاولة الإصلاح، أو دفع من يعول للفساد أو المرض النفسى، أو تجنب نصحه انتقاما منه، أو الانتقام الفعلى حينما يتركه يقع فى ورطة إثر أخرى، أو ذله وكسر إرادته بخصامه فترات طويلة أو بعدم الإنفاق عليه مع القدرة، أو التشفى فيه حينما يقع فى مكروه، أو مقارنته بغيره وإثبات أنه أقل من الجميع، أو بالمناقشة المتحيزة دوما، والظالمة أبدا، أو بالانتصار الدائم لرأيه، أو بالإهمال له، أو باضطراب العلاقة بين الأبوين، أو بتكرار الإهانة والسخرية، أو بالكذب وسائر الانحرافات، أو بالعدوان والعنف. تاسعا: إن معظم الناس يفهمون التضييع على أنه التضييع المادى فقط، وذلك حينما يترك الإنسان من يعول فقيرا معدما، أو محتاجا معوزا، وقد حذر رسول الله منه قائلا: ((إنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتْكَ أَغْنيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالةً يَتَكَفّفُوُنَ الَّنَاس))، ولكن هذا نوع من أنواع التضييع. عاشرا: إن أنواع التضييع كثيرة، فيشمل الجانب العلمى إذا ترك المرء من يعول جاهلا ولم يعلمه العلم النافع، ويشمل الجانب العملى إذا تركه ساذجا بلا خبرة، ولم يقم بتزويده بالخبرات النافعة فى الحياة، ويشمل الجانب العاطفى إذا تركه يتسول العواطف، ولم يشبعه بالحب ويغمره بالحنان، ويشمل تقدير الذات واحترامها، إذا تركه بلا اعتبار لشخصه، وبلا احترام لمشاعره، وبلا تقبل لآرائه، وبلا اعتراف بمزاياه، وبلا إصلاح لعيوبه، ويشمل البخل بالنصيحة، إذا تركه يتخبط فى دنيا الناس، يتسول منهم النصيحة أعطوه أو منعوه. حادى عشر: إن التضييع العقلى والعلمى والعاطفى والنفسى ينتج عن عدم رعاية هذه الجوانب لدى الأبناء، وهو أخطر من التضييع المادى رغم خطورة الأخير، لأنه يترتب عليه أن يحتاج الأبناء من يُشعرهم بالحب والتقبل، أو يرتمى أحدهم فى أحضان أول من يقول له كلمة طيبة تعنى له التقدير أو الحنان، أو يشب لا يرى لنفسه قيمة، ولا يجد لنفسه هدفا، ولا يحدد لنفسه طريقا، ولا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ولا يرتدع بشرع، ولا يعتبر بدين، ولا يعترف بعرف، ولا يعتاد عادات قومه، ولا يعتقد ما يعتقدون، وليس هناك أسوأ من شعور الابن بأن أباه ضيعه، أو شعور الأب بأن أبناءه ضيعوه، أو شعور الزوجة بأن زوجها ضيعها، أو شعور الزوج بأن زوجته ضيعته، فكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول.