ونسير مع موكب الرسل والأنبياء لنرى بعض الابتلاءات من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فنجد موسى عليه السلام يُبْتَلى صغيرًا حتى بلغ أشده واستوى ووَكَز الذى هو من عدوه فقتله، فخرج من بلده خائفًا يترقب، فكان خروجه بلاء مع بلاء الغربة، ونقص الثمرات، حتى تولاه الله تعالى برحمته قبل بعثته، وقصته مدونة، والبلاء الأشد كان لأمه صاحبة الفؤاد الفارغ وهى تُلْقِى به فى النهر، فيلتقطه آل فرعون، وتدعو الله سبحانه أن يعيده إليها، بعد صبرها على قضاء الله عز وجل، فإذا بالمولى سبحانه وتعالى يحقق أملها ويستجيب لدعائها "فَرَدَدْنَاهُ إلَى أُمِّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا ولا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أَنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" (القصص: 13) إنه جزاء الصابرين المحتسبين. ونترك أم موسى إلى أم عيسى، مريم ابنة عمران رضى الله عنها التى أحصنت فرجها، حين تُبتلى بالفرية والكذب والادعاء زورًا من قومها فى أعز ما تملك امرأة شريفة "يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ومَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" (مريم: 27، 28)، فماذا تقول؟ تصبر وتحتسب وتشير إلى الوليد "فَأَشَارَتْ إلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى المَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِى الكِتَابَ وجَعَلَنِى نَبِيًّا * وجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وأَوْصَانِى بِالصَّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وبَرًا بِوَالِدَتِى ولَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا * والسَّلامُ عَلَى يَوْمَ ولِدتُّ ويَوْمَ أَمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا" (مريم: 29 - 33). وصور الابتلاءات الفردية كثيرة ومتعددة، هذه أمثلة لبعضها، فما من نبى ولا رسول ولا أتباعهم من المؤمنين إلا وابْتُلِى بلاء شديدًا، وما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم إلا بشر مثلنا تجرى عليه هذه السُّنَّة، فابتُلى بموت والده قبل ولادته، وموت أمه قبل بعثته، وموت ابنه بعد زواجه، فعلمنا كلمات نقولها فى مثل هذه المصائب: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون، ولا نقول إلا ما يرضى الرب" والذى يُرضِى الرب فى مثل هذا الموقف أن نقول "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنى فى مصيبتى وأبدلنى خيرًا منها"، وأما ابتلاءاته الأخرى من الإيذاء والسخرية والاستهزاء وغير ذلك مما كان يؤذيه فهى لا تغيب عن مسلم. وإذا كانت ابتلاءات الأنبياء والرسل الكرام كثيرة من الصعب حصرها، فكذلك ابتلاءات الأمثل فالأمثل من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين كثيرة أيضًا، كان أشدها على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كل بلاء دونه أهون، ولقد نبَّههم القرآن لهذه الحقيقة التى غفلوا عنها عند موته صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قرءوا من قبل كتاب ربهم "إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُم مَّيِّتُونَ" (الزمر: 30)، "ومَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ومَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (آل عمران: 144) إنه الصبر والاحتساب والرجوع إلى الله تعالى فى البأساء والضراء وحين البأس، وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "دخلت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا قال: أجل، إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى -شوكة فما فوقها- إلا كَفَّر الله بها من سيئاته، وحطت عنه ذنوبه كما تحطّ الشجرة ورقها". ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط"، وعن أنس رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدى بحبيبتيه فصبر عوَّضته عنها الجنة" يريد عينيه، وعن عطاء بن أبى رباح قال: قال لى ابن عباس رضى الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: إنى أصرع وإنى أتكشَّف فادعُ الله تعالى لى، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إنى أتكشَّف فادعُ الله لى ألا أتكشف، فدعا لها. وعلى هذا فإن المؤمن يعلم أن المولى سبحانه وتعالى ارتضى له هذا البلاء، واختاره له وقسمه، وأن العبودية لله تعالى تقضى رضاه بما رضى له به سيده ومولاه، فإن لم يُوَفِّ الرضا حقه لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر على بلواه، فإن نزل عن الصبر انتقل إلى مقام الظلم وتعدى الحق. كما لا بد أن يعلم أن هذه المصيبة هى دواء نافع ساقه إليه الطبيب بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسَخُّطِه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً "وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 216)، "فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء: 19). كما لا بد من أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أولياء الله وحزبه أم لا؟ فالله سبحانه وتعالى يربِّى عباده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج من عبوديته فى جميع الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذى يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذى يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية. فلو علم العبد أن نعمة الله سبحانه عليه فى البلاء ليست دون نعمة الله عليه فى العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه "اللهم أعنى على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"، وكيف لا يشكر من قيَّض له ما يستخرج خبثه وصَيَّره ذهبًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره سبحانه، فاللهم ارزقنا بقضائك حتى ترضى. فأنت ترى أنواعا من الابتلاءات تصيب المؤمن لتُطَهِّره، وهو بصبره على هذه الابتلاءات يجنى ثمرة صبره فى الدنيا قبل الآخرة إن استرجع يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنى فى مصيبتى وأبدلنى خيرًا منها" يبدله الله خيرًا منها لا محالة. واستمع إلى الإمام أحمد يروى حديثًا عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: أتانى أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سُرِرْت به، قال: "لا يصيب أحدًا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرًا منها إلا فعل ذلك به"، قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما تُوفِّى أبو سلمة استرجعت، وقلت: "اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرًا منها"، ثم رجعت إلى نفسى، فقلت: من أين لى خير من أبى سلمة؟ فلما انقضت عدتى استأذن علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ أهابًا لى، فغسلت يدى من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها فخطبنى إلى نفسى، فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله ما بى أن لا يكون بك الرغبة، ولكنى امرأة فىّ غيرة شديدة، فأخاف أن ترى منى شيئًا يعذبنى الله به، وأنا امرأة قد دخلت فى السن وأنا ذات عيال، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك، وأما ما ذكرت من العيال، فإنما عيالك عيالى"، قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة بعد: أبدلنى الله بأبى سلمة خيرًا منه؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أم سلمة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرًا منها) إلا آجره الله فى مصيبته، وأخلف له خيرًا منها"، وقالت فلما تُوفِّى أبو سلمة قلت كما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لى خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيُحدث ذلك استرجاعًا، إلا جدَّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب"، وعن أبى سنان قال: دفنت ابنًا لى، فإنى لفى القبر إذ أخذ بيدى أبو طلحة (يعنى الخولانى) فأخرجنى وقال لى: "ألا أبشرك؟" قلت: بلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدى؟ قبضت عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتًا فى الجنة وسمُّوه بيت الحمد". ولقد وعى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعًا هذه الدروس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أمرهم كله لهم خيرا، إن اصابتهم سرَّاء شكروا، وإن أصابتهم ضرَّاء صبروا، رُوِى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ما أصابتنى مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى أنها لم تكن فى دينى، والثانية أنها لم تكن أعظم مما كانت، والثالثة أن الله يجازى عليها الجزاء الكبير، ثم تلا قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ" (البقرة: 157).