لأننا نعيش الآن حالة من الصخب والصراخ، والثرثرة، نلفت الانتباه ولو قليلا إلى أن الإنسان فى مقدوره أن يصمت؛ فقد انتقل الجدل الإعلامى من الشاشات إلى الأروقة والمقاهى، بل فى أماكن العمل وداخل جدران المنازل، فالجميع صار لديه شهية لنقل ما يسمعه، ثم التعليق عليه، وإبداء الرأى فيه، ومع أن ذلك قد يكون حالة صحية فى كثير منه، إلا أن مثله مثل كل شىء، إذا زاد حده انقلب إلى ضده، خاصة أن الصمت المقصود هنا ليس هو المضاد للكلام، ولكنه فقط مضاد للكلام السلبى، والجدال العقيم.. وكما أن للكلام ثقافته، فللصمت أيضا ثقافته. فى الحكمة والأمثال يقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت..."، ويقول "شارل ديجول" -جنرال ورجل سياسة فرنسى-: "الصمت أقوى أسلحة السلطة"، أما "لاو تزو" -فيلسوف صينى قديم- فيقول: "الصمت مصدر قوة عظيمة"، و"توماس كارليل" -كاتب أسكتلندى وناقد ساخر ومؤرخ-: "الصمت أكثر فصاحة من الكلمات". وقال أيضا: "الصمت عميق كالأبدية، أما الحديث فسطحى كالزمن". وأيضا يقول "إرنست همنجواى" -روائى وقاص أمريكى-: "يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام و"خمسين" ليتعلم الصمت". وقيل: إن "أفضل جواب للغضب هو الصمت"، وفى المثل العربى: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، وفى الحكمة: "جواب السفيه الصمت". ومما ينسب لعلى بن أبى طالب -رضى الله عنه-: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال: "بكثرة الصمت تكون الهيبة"، وعن عمرو بن العاص -رضى الله عنه-: "الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل"، وقال لقمان الحكيم لولده: "يا بنى، إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك". وعَن إِبْرَاهِيم بْن أبى عبلة -أحد الأشراف والعلماء بدمشق، تابعى جليل- يقول فى استحسان الصمت عامة، مخافة أن يتكلم الإنسان بما يندم عليه: لسانك ما بخلت به مصون ** فلا تهمله ليس له قيود وسكن بالصمات خبى صدر ** كما يخبى الزبرجد والفريد فإنك لن ترد الدهر قولا ** نطقت به وأندية قعود كما لم ترتجع مسقاة ماء ** ولم يرتد فى الرحم الوليد ويفضل الإمام الشافعى الصمت، خاصة فى الرد على الحمقى والسفهاء، فيقول: قَالُوا سَكَتَّ وَقَدْ خُوصِمْتَ قُلْتُ لَهُمْ *** إِنَّ الْجَوَابَ لِبَابِ الشَّرِّ مِفْتَاحُ فَالصَّمْتُ عَنْ جَاهِلٍ أَوْ أَحْمَقٍ شَرَفٌ *** أَيْضًا وَفِيهِ لِصَوْنِ الْعِرْضِ إِصْلاحُ أَمَا تَرَى الأُسْدَ تُخْشَى وَهِى صَامِتَةٌ *** وَالْكَلْبُ يَخْسَى لَعَمْرِى وَهُوَ نَبَّاحُ وفى المعنى نفسه ومن مأثور الشعر فى معاملة السفهاء: سكتُّ عن السفيه فَظَنَّ أنِّى *** عييتُ عن الجواب وما عييتُ فإنْ كلَّمتُهُ فرَّجتُ عنهُ *** وإن خليتُه كمدا يموتُ! ضجيج غير مبرر وفى إشارة إلى الجدال العقيم أو شطط الكلام بلا طائل بالتطبيق على مجتمع النهضة الذى نصبو إليه، يقول د. عبد اللطيف عمارة -أستاذ علم النفس بجامعة المنصورة-: يحضرنى منذ البداية مقولة سيدنا على -رضى الله عنه-: "إذا حاورنى عالم غلبته، وإذا حاورنى جاهل غلبنى"، ذلك لأن العالم لديه منطق، ويملك أساسيات التفكير السليم، أما الجاهل فليس لديه لا هذا المنطق ولا تلك القدرة على التفكير السليم. ويضيف: إذا أسقطنا هذا الكلام على الواقع، نجد الكثير ممكن يتكلمون فى الإعلام وغيره يتجمعون ويعلنون أن تجمعهم وتكاتفهم إنما هو من أجل إسقاط حزب أو القضاء على تيار أو فئة، فى حين أن لغة الخطاب المفترضة من الوطنى الصالح، أو من يريد مصلحة بلاده إنما لا بد أن تقول إن التجمع أو الائتلاف إنما يكون من أجل بناء مصر. بالإضافة إلى العديد مما نسمعه من مصطلحات خاطئة، مثل "تكويش"، أو "أخونة" فى حين أن الناس هى من تعطى بكامل إرادتها. وهذا دليل على عدم المنطقية. وهذا هو ما نقوله أيضا فى التفريق بين النقد البناء والنقد الهدام؛ فالنقد البناء يبحث عن النقاط غير المستحسنة ويعرض البديل المناسب لها، أم الهدام فهو يرفض من أجل الرفض ويعارض من أجل المعارضة. والخلاصة -وفقا لعمارة- أن الجدال لا بد أن يكون له هدف مرتبط بالمصلحة الكلية. أما لغة الصمت فتكون مناسبة وصحيحة حين يكون النقاش دائرا بين فريقين كل منهما له منطق وحجة، وكلاهما منطق معتبر ومعتد به، فحينها نتوقف لحظات، ونتفق أنه من الأهمية قطع استرسال النقاش لحين فترة يسودها الهدوء والتروى؛ حتى يستطيع الجميع التفكير بطريقة صحيحة، فيُتخذ فى النهاية القرار الصحيح. وهذا بالطبع مبدأ سليم سيكولوجيا واجتماعيا. لكن المشكلة تكمن حينما يكون الخصم فى النقاش جاهلا أو أحمقا، فهو للأسف لن يصمت، وهذا مما هو معروف من سمات الحماقة؛ أن صاحبها لن يصمت، كما أنه غالبا ما يتكلم باحثا عن مصالحه ومآربه الشخصية، أما الصالح العام أو البناء والدفع بما يخدم المصلحة الكلية الجمعية فهو لا يتكلم فيه. ويتابع: أن التذكرة بالصمت مهمة فعلا فى تلك الأوقات، وهى ما نفعله حينما نكون داخل اجتماع مهم على سبيل المثال؛ ويكون لدى المجتمعين "إخلاص" -وهى هنا مفردة مهمة أود التركيز عليها- وصدق نيات فى الرغبة للوصول للقرار الصالح أو الصائب، وعندما يتشبث كل فرد برأيه وفى ظنه أنه يريد مصلحة المؤسسة أو الجهة التى يوجد فيها، فحينها نتفق أن نسترخى قليلا أو نهدأ أو حتى نخرج فى فترة راحة قصيرة من أثر تلك النقاشات الحادة. وأضاف: ثم نعود مرة أخرى وقد تحقق للجميع نوع من الصفاء الذهنى والاسترخاء، الأمر الذى يساعد الجميع على أن يعيد حساباته ويراجع رأيه وتفكيره مرة أخرى. وذلك بدلا من ترك المجال فى صدام المناقشات إلى تدخل شيطانى، بحيث يحاول كل فرد أن يثأر لنفسه، أو يبقى مصرا على أن كلامه وفقط هو ما يجب أن يؤخذ به. ويرى أن الصمت مع حالة تأمل وتدبر، تضفى على الإنسان سكينة نفسية، تعد فى ذاتها وقودا ودافعا لاستئناف العمل من جديد، ويضيف: إن صحة تلك الفكرة نفهمها من المعرفة الدينية، التى تحثنا على اليقين والثقة وحسن الظن بالله تعالى، وهو ما يجعلنا نهدأ لنعمل، فى حين أنه ليس علينا إدراك النجاح. وحول تأثير الصمت من الناحية النفسية على الوجدان الإنسانى، يقول د. عبد اللطيف: إن الإنسان يتميز عن بقية المخلوقات بأنه كائن انفعالى، فإذا سادت بين اثنين حالة نقاش حادة، فأثناء الانفعال هناك مواد كثيرة يفرزها الجسم، فضلا عن ظهور عوامل الانفعال فى الكثير من النواحى الفسيولوجية والسيكولوجية، حتى إن الحكمة تقول: "العند يورث الكفر"، وهذا يعنى أن العند يشل قدرة الإنسان على التفكير السليم، فعندها قد يأخذ القرار الخاطئ، الذى يترتب عليه مشاكل أو أضرار بنفسه أو بالآخرين، ولكن عندما يهدأ الإنسان ويسترخى، يساعده ذلك على أن يعيد حساباته بطريق أخرى. فهى فكرة جيدة على المستوى الشخصى وحتى على مستوى الدولة. ويردف قائلا: لأن هناك دائما فى أى نقاش طرفا آخر قد يظن البعض أن صمته ربما يكون ضعفا يكون من المناسب أن يسلك المصلحون أو القائمون على الأعمال طريقهم، ولا يلتفتون لما حولهم من ألوان النقد الهدام، أو الجدالات السلبية غير المنطقية، خاصة أن هناك حكمة تقول: "إرضاء جميع الناس غاية لا تدرك".. ولكن بعد احترام رأى الشورى أو رأى الأغلبية، فهذا يعطينا بعض الهدوء كى ننتظر لنرى ما ستسفر عنه فى التنفيذ. ولكن لا يصح التهليل والصراخ والصوت العالى قبل بدء تنفيذ قرار أو أمر اتُّخذ بآليات صحيحة، وباتفاق الأغلبية، فإذا وجدنا أمرا ما بعد الممارسة خطأ، حينها نعدل المسار، أما إذا كان صحيحا فعلينا أن نكمل المسير. تقليل المشاكل من جانبه، يقول د. رشاد عبد اللطيف -أستاذ تنظيم المجتمع بجامعة حلوان-: من الناحية النظرية كلما قلت المشاحنات وسكت الناس، أدى ذلك إلى التنمية، لكن فى النهاية هذا كلام نظرى، فلا الناس ستصمت ولا المشاحنات ستقل، وإلا نكون فى مجتمع مثالى، فالحقيقة أننا سنظل فى مشاحنات. ويتابع عبد اللطيف: أن كلا من الصمت التام والمشاحنات ليس هو الحل؛ فالمجتمع لا بد أن يعيش فى حالة ديناميكية، لكن إذا توافر للناس الأمن والخدمات، قلت المشاحنات، وإذا لم تتوافر، يعلو الصراخ والصخب. أما الحل الواقعى فيكمن فى ترشيد الكلام والبدء بالأفعال، وتوفير الخدمات، والمسارعة فى الإنتاج، لتوفير دخل مناسب لكل الأفراد. واستطرد قائلا: وحينها يكون دور المواطن أنه ينتج ولا يفتعل الصراعات أو الاعتراضات فى غير محلها، أو الاعتراض من أجل الاعتراض، ولكن بدلا من أن يتكلم كثيرا ينتج كثيرا، ويتكلم أيضا بشكل مرشد، بحيث يكون كلامه إنتاجا، وليس كلاما من أجل الكلام، فإذا تكلم أحدهم ليحل مشكلة مثلا، فهذا إنتاج، أما إذا تكلم ليسيئ إلى غيره فهذا يهدم المجتمع، وهذا هو الفرق بين الكلام السلبى والكلام الإيجابى.