ما أحلى الرجوع إلى الحق! وقد قال عنه السابقون: إنه فضيلة، وهى فضيلة لا يحوزها ولا يحرص عليها إلا الكبار؛ لأنها تتطلب نفوسًا كبيرة، وعقولًا راجحة، وبصائر مميزة، تلك التى تدرك أن الحق أحق أن يتبع، وأنه لا يجب أن يصرفنا عن اتباعه شنآن الشخوص التى تقول به. والرجوع إلى الحق هو سلوك الشجعان، والتنصل منه لأى سبب ينم عن جبن وخور وضعف تتسم به النفوس الوجلة المضطربة التى تؤثر الاستمرار فى الخطأ إما كبرًا أو خشية الناس، والله أحق أن تخشاه. وتكون النفوس أعظم وأكبر وأشجع إذا كان ما ترجع عنه ليس بالضرورة باطلًا، بل يدور مع الرأى الآخر بين الراجح والمرجوح والصواب والأصوب. إلا أن كثيرين يعجزهم اكتساب هذه الفضيلة، حيث يمنعهم الكبر، ويقطع عليهم الطريق الخوف من الملامة، والخجل من الاعتراف بالخطأ. إن الخطأ ناموس بشرى، فكل ابن آدم خطَّاء، ولا شك أن خير الخطَّائين التوابون، ولهذا فالخطأ فى حد ذاته ليس عيبًا ولا نقيصة، لكن العيب كل العيب والنقص كل النقص فى الإصرار على الخطأ إذا تبين، وفى أن تأخذ المخطئ العزة بالإثم فيستنكف عن الاعتراف بالخطأ والرجوع للحق. لقد كان الكبار ممن سبقونا يبذلون كل وسعهم فى الاجتهاد فى قضية ما، حتى يظنوا أن ما توصلوا إليه بعد كل هذا الجهد هو الحق الأبلج، ولكن كانوا إذا ظهر لهم بعد هذا كله ما يدحض ما بنوا عليه رأيهم الأول لا يجدون غضاضة فى مراجعة حكمهم ورأيهم وفق ما تبين لهم من أدلة وأسانيد جديدة، ولم يقل عاقل: إن مراجعاتهم تلك وتعديل أحكامهم قد حطت من شأنهم أو انتقصت من قدرهم، بل على العكس عُدَّت لهم شرفًا ومنقبة يحمدون عليها. لقد قال الشعب نعم للدستور، ولأنى أحسب نفسى واحدا من أبناء هذا الشعب الذى يريد الخير لمصر، وأن علىّ واجب ومسئولية السعى إلى توحيد الجهود لبناء الوطن والقضاء على الفتن، كتبت على صفحتى على "فيس بوك" رجاءً صبيحة اليوم التالى للاستفتاء بعد ظهور موافقة غالبية الشعب على الدستور، قلت فيه: "أرجومنكلالإخوةوالأخواتالذينقالوانعمللدستورأنيتواضعواللهشكرا،وأنيترفعواعنالشماتةبأحدأوتعييرأحدأياكانومهمافعل،الوقتهووقتالمصالحةالوطنية،مدواأيديكمحتىلورفضهاالبعض،كونوامطفئى الفتنلامسعريها،كونواكباراكماكنتمدائما،ومصرلنيبنيهاإلاالكبار". بدأت بمن قالوا نعم حتى لا تأخذهم النشوة والغرور، وحتى لا يقطعوا بما قد يفعلونه من مظاهر فرح أواصر التواصل مع الاتجاه الآخر، ويقضوا على أمل التفاهم والتعاون، وأثنِّى الآن بمن قالوا لا، وأدعوهم لأن يكونوا أيضًا كبارًا، ويقبلوا بخيار غالبية الشعب، وأن يترفعوا عن الكبر والعناد، وأن يمدوا أيديهم لإخوانهم فى الوطن، للتعاون على ما خرجت به "شورى الشعب"، والانتقال بوطننا خطوة للأمام. ما أحوجنا جميعًا للتخلق بخلق الكبار هذا، والانتصاف من نفوسنا للحق وحده، والتجرد من كل ما يعوق مسيرة المراجعة الدائمة لمواقفنا وأحكامنا وقراراتنا، واحتساب ما قد يصيبنا جراء ذلك من نقد مَن لا يُقدِّرون قيمة هذه الفضيلة ويتصيدون للناس الزلات والأخطاء ويحصونها عليهم، لا لشىء إلا لشعورهم بالتقزم، وعجزهم عن مطاولة أعناق أصحاب الفضل!. فيا من أبصرتَ الحق فى غير ما رأيتَ، وعلمتَ الصواب فى غير ما حكمتَ وقررتَ، إن الحق يناديك، فهلا أجبتَه؟.