إن البنَّاءَ الحَصيف إذا أتم بناءً صَف من اللبِنَات عليه أن يرجعَ خطوة إلي الوراء يتلمس مَواطن الخلل فيُصلحها حتى يصل إلى أكمَل هيئة وأقوم كيان وأمتن بنيان وأحسن نموذج ومثال. وهذا هو حال البنائين العظام الذين شيدوا أعظم وأهم وأكمل الكيانات الفكرية والتربوية والأخلاقية على طول التاريخ البشري. أنبياء وعلماء، ومُربون، ومفكرون وسياسيون، وقادة وزعماء كبار في القيمة والقامة والمكانة الاجتماعية والسياسية، وقدرهم عند ربهم جل وعلا عظيم فقد اصطفاهم واختارهم لحمل أمانة التبليغ من بين البشر، ورغم ذلك فلم يحملهم هذا الشعور بالتميز العقلي والروحي والفكري على عدم الاعتراف بالخطأ ومراجعته وتقويمه. كأنهم بذلك يريدون أن يرسلوا للبشرية رسالتين: الأولى: أن لا أحدَ من البشر يضعه الآخرون فوق المحاسبة والمراجعة والنقد والتقويم؛ فإذا كان الأنبياء وهم أعظم وأكمل البشر على الإطلاق قد قاموا بهذا الفعل وتم بالفعل التقويم والتصحيح والمراجعة في القضايا التي بَاشروها، فهذا بلا شك يدل على أن هذا الأمر واجب مع من هم دون الأنبياء من دعاة وعلماء ومصلحين ومفكرين وقادة. الثانية: هي ترْك القدوة والمثل والنمُوذج لأتباع الرسل والأنبياء من دُعاة ومصْلحين ومُربين، بأن يسيروا سيرتهم ويقتفوا أثرهم في مُواصلة النقد الذاتي لمسيرتهم وتصحيح أخطائهم وتقويمها، حتى إذا وصلوا إلى نهاية المشوار والطريق الطويل وصلوا بأقل قدر من الأخطاء بما يرضي الله عز وجل ويترك الأثر الحسن فيمن يأتي بعدهم لحمل راية الإصلاح والدعوة. ومن أمثلة المراجعات والنقد الذاتي في حياة الأنبياء، نرى ذلك واضحًا في حياة سيدنا داود عليه السلام في قصة المرأة التي اتهمها الناس أن كلبًا زنا بها، وفي قصة الغنم التي نفشت في زرع القوم، وغيرها كثير. نراه صلي الله عليه وسلم بعد أن حكم، وأذاعَ فى الناس حُكمه، وهو الملك النبي الذي آتاه الله من العلم والملك والحكمة، يرجع في قضائه، وينزل علي رأي ابنه سليمان عليه السلام الذى رآه أقرب إلى الصواب. بل نري ذلك واضحًا في حياة سيد الأنام، محمد صلي الله عليه وسلم؛ في قصة تأبير النخل؛ حين قال قولته الخالدة "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وفي اختيار موقع معركة بدر؛ ينزل علي رأي الحباب بن المنذر، وغيرها كثير مما حَفلتْ به كتب السيرة. نراه صلى الله عليه وسلم يرجع عن رأيه إلى الصواب؛ وهو رسول الله، والإما م الأعظم، والمعصوم وصاحب السلطة الدينية والسياسية، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم، وإمام الأئمة، وعالم العلماء. فما بال أقوام يتكبرون عن الرجوع إلي الحق بعد ما تبين؟ الله الله في أخلاق الأنبياء، فلنتعلم منهم الشجاعة في قول الحق والبسالة في الرجوع إلي الحق. لنتعلمَ منهم فضيلة التواضع وتحرى الحق والصواب حتى لو لم يكن معنا وفي جانبنا، ثم الاعتراف به والدوران معه حيث دار، لا الدوران مع النفس بما تحمله من اعتزاز واعتداد بالرأى حتى لو كان خاطئًا. ولنراقبْ اللهَ في أقوالنا وأفعالنا، ولنعلم أن الفُتيا في الدين توقيع عن ربِ العالمين. وألا نبالي بسَخط الأتباع والجماهير، فالحقُ أحبُ إلينا من الأتباع والجماهير، وألا نضعَ أنفسَنا في منزلة تعْلو على منزلة الأنبياء المُؤيَدين من رب العالمين المُنزه عن كل عيب وخطأ ونسْيان جل في علاه.