"الديمقراطية"، "احترام القضاء"، "حرية الإعلام".. هذا الثالوث الشعاراتى؛ صكت آذاننا القنوات الفضائية والمنصات القضائية بالصراخ به والولولة عليه، منذ تولى الرئيس محمد مرسى مقاليد الحكم قبل خمسة أشهر فقط، وقد يكون الأمر مبررا ومفهوما حين تكون هذه الشعارات صادرة عن أشخاص أو أحزاب ذات مصداقية فى احترام هذه الشعارات والذود عنها، ولكن المتابع العادى للشأن السياسى فى المحروسة، على مدى الشهور القليلة الماضية، وما سبقها من عقود فى عهد المخلوع، يخرج بنتيجة مؤكدة هى أن "أغلب" من يرفعون عقيرتهم بهذه الشعارات البراقة والمبادئ الرنانة، فى المنصات الإعلامية والقضائية هم أول المعادين لها والمنقلبين عليها، لا نقول مستقبلا، بل باستعراض وقائع وأحداث بعيدة وقريبة قطعية الثبوت والدلالة، الأمر الذى يقطع بأن التمترس خلف هذه الشعارات لا يراد به وجه الله والوطن، بل الهدف منه توجيه طعنة مزدوجة من رأسى الفتنة لرأس النظام السياسى فى البلاد. هذه الضجة الكبرى إزاء الإعلان الدستورى الأخير للرئيس لم نر لها مثيلا بعد الثورة، حين أصدر المجلس العسكرى،ليس إعلانا واحدا ولا اثنين، بل خمسة إعلانات، لم نر فى مواجهتها قصفا أو احتجابا إعلاميا، ولا عصفا أو اعتصاما قضائيا، بل تحالف الفريقان ضد أول مجلس شعب منتخب انتخابا حرا، وكأنهم اعتادوا وأدمنوا مجالس التزوير فى عهد المخلوع، فلم يصبروا على مجلس يعبر تعبيرا حقيقيا عن نبض الشعب. ومن قبل الثورة لم نسمع لهم حسا ولا همسا تجاه (مرمطة) نظام المخلوع بالمؤسسات القضائية والإعلامية معا، من خلال تعديلات مبارك الدستورية لإقرار مخطط التوريث، وتزوير استفتائها، وتزوير (كافة) الانتخابات الرئاسية والتشريعية والعمالية والمحليات، وإهانة القضاء بإعلان إجرائها تحت إشراف القضاة، بل وسحل القضاة المعارضين والعدوان عليهم وإحالتهم إلى الصلاحية، وما صاحب ذلك من تدبير الاعتداء على الصحفيين، وإحالتهم إلى المحاكمة، وإغلاق قنوات فضائية ("الناس" و"الرحمة" وغيرهما)، وقبلها إغلاق صحيفتى "الشعب" و"آفاق عربية". ومن المدهش أن من وقف يساند نظام المخلوع فى هذه الإهانات للقضاء والإعلام من أمثال: عمرو وعماد أديب، ولميس الحديدى، وخيرى رمضان، وسيد على، وتوفيق عكاشة، وأحمد الزند، وشوقى السيد، ومرتضى منصور، وتهانى الجبالى و(كل) أعضاء المحكمة الدستورية، هؤلاء جميعهم وغيرهم، هم أنفسهم من يركبون الآن موجة الدفاع عن حرية القضاء والإعلام، بينما من وقفوا بحق فى وجه نظام المخلوع هم من يساندون الآن شرعية الرئيس، من أمثال المستشارين الأجلاء: أحمد ومحمود مكى، وزكريا عبد العزيز، ود. عاطف البنا، ود. ثروت بدوى.. وبضدها تتميز الأشياء. إنها معركة كسر العظم وعض الأصابع يمارسها فلول نظام المخلوع، متحالفين مع سياسيين انتهازيين متربصين لا رغبة لديهم إلا إفشال الرئيس، متشدقين بشعارات جوفاء تزعم تعبيرهم عن تطلعات الشعب وأشواقه، ولو صدقوا لقبلوا برأى الشعب الذى تعبر عنه فقط صناديق الاقتراع، وليس الاستديوهات وبضعة آلاف تتسع عليهم الميادين التى يلتقون فيها مع البلطجية والباعة الجائلين وأولاد الشوارع، وما ينتج عنها من دماء وتحرش وكر وفر وتخريب لمؤسسات الدولة والشعب، بهدف تعطيل المؤسسات المنتخبة، ورفض الاحتكام إلى قواعد الديمقراطية التى طالما صدعوا رءوسنا بها، ورفضهم هذا نابع من يقينهم بضعف تمثيلهم فى الشارع المصرى، يؤكد ذلك تجمعاتهم الهزيلة التى لا تتلاءم مع مزاعمهم بأنهم صوت الشعب وضميره.. إنهم حقا يمارسون الفجور السياسى والإعلامى والقضائى، وصدق الرسول الكريم حين قال: "يأتى على الناس زمان، يخير فيه الرجل بين العجز والفجور، فمن أدرك ذلك الزمان، فليختر العجز على الفجور".. ولكنهم يجمعون بين العجز والفجور معا! وكم كنت أتمنى أن يعلن رئيس الجمهورية فى خطابه الأخير تجميد المواد المختلف عليها فى الإعلان الدستورى، والخاصة بتحصين قراراته، والدعوة إلى حوار حول بضع عشرة مادة فى مشروع الدستور من بين 234 مادة وفق برنامج زمنى وإجرائى محدد، لا سيما أن الإعلان قد حقق أغراضه وأضعف كثيرا من احتمالات التآمر القضائى، حتى يقطع الطريق على من يرفعون قميص عثمان، ويسعون للفتنة.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ---------- خالد الأصور [email protected]