تحدث القضاة الحقيقيون فأسمعوا، ونصحوا فأوجعوا، من دون ضجيج ولا كثرة مؤتمرات ولا خطب ولا لقاءات متلفزة يتم بثها على تليفزيون لميس وأديب. القاضى الحقيقى لا تعرفه ساحات الفضائيات، بل تعرفه ساحات القضاء، قد لا يعرف الناس ملامحه، وقد لا يذكرون اسمه ولكن يكفيه دعوات المتخاصمين وقد فصل بينهم بالعدل وحكم لهم بالقسط فنام مستريح البال مطمئن القلب. القاضى الحقيقى هو من كان يتحاشى أن يعرفه بائع الخضار حتى لا يدخل معه فى علاقة أو معرفة يمكن أن يساء استخدامها يوما من الأيام، وليس القاضى من يريد أن يرى الناس وجهه ويقرءون اسمه على الفضائيات مسبوقا بكلمة مستشار أو رئيس محكمة، ليس هؤلاء هم القضاة الحقيقيون. القاضى الحقيقى لا يرغبه ذهب، ولا ينفره سيف، لا تدنيه فضائية ولا تقصيه منصة، لأنه يعلم أنه فوق كل المنصات وأعلى من سماء أى فضائية. القاضى لا يأتى أحدا، ولا يزور حاكما ولا يذهب إلى مسئول، بل يأتيه الناس بمن فيهم الحاكم طلبا للعدل، وهل يوجد عدل عند أحد سوى فى بيوت القضاء وأعنى بها المحاكم. حين يتخلى القاضى هكذا عن عرش، وحين يبيع هكذا مجدا بدراهم معدودات أو ريالات أو حتى دنانير ماذا يمكنك أن تصفه إلا بالسفيه الذى يجب الحجر عليه لسوء تصرفه فى ممتلكاته النادرة والتى لا تقدر بثمن واستبدالها ببعض أحجار من زلط وطين. حين يقرر مجلس القضاء الأعلى المشاركة فى الإشراف على الاستفتاء على الدستور الجديد فهذا يعنى أن الزند وناديه لا يمثلان إلا نفسهما، ولا يعبران إلا عن ذاتهما ومن حولهما مجموعة المصالح المتداخلة والمستفيدة من كل شىء، وأعتقد أنهم تلقوا ضربة قاضية بقرار مجلس القضاء الأعلى والذين تبين للجميع أنه وحده من يمثل القضاة ومن بيده الكلمة العليا عندهم. اليوم يعود القضاء إلى مكانته الطبيعية، واليوم يتأكد للجميع أن قضاة الزند ليسوا بقضاة بل ساسة يرتدون "روب" القضاة وأوشحتهم للتغطية على أنشطتهم السياسية والاقتصادية وعلى شبكة علاقاتهم الإعلامية. الذين بكوا على هيبة القضاء عليهم أن يعتذروا عن بكائهم؛ لأنهم بكوا على من لا يستحق البكاء، ولا يستحق التقدير. من يستحق التقدير فعلا هم القضاء الذين تركوا حظ أنفسهم ليسمعوا ويلبوا نداء أوطانهم فتحية لهم. --------------------------- د. حمزة زوبع [email protected]