انظر وأمعن النظر فى هذا الرجل الثمانينى الذى كان يتلو بنود الدستور ومواده الواحدة تلو الأخرى، واسأل نفسك: ما الذى يدفع رجلا فى هذه السن المتقدمة والمكانة العلمية الرفيعة أن يسهر ثمانى وأربعين ساعة متتالية يتلو النصوص نصا نصا ويستمع لما يقال من تعليقات فى صمت وحكمة؟ هل تعتقد أن الإخوان والسلف قد شروه بالمال؟ هل تظن أنه جاء بحثا عن منصب أو جاه؟ لماذا لا يستريح فى بيته بين أحفاده وينعم بما تبقى له من عمر "أطال الله فى عمره؟". لماذا لا يلهو قليلا فى أى بلد أوروبى وأمريكى؟ لماذا لم يترك الساحة ليشارك فى مؤتمر أو ندوة عالمية قد تدر عليه آلاف الدولارات فى ساعة واحدة وهو العالم الجليل فى تخصصه؟ لماذا قرر أن يأتى إلى بلده ويسهر تلك الساعات الطوال ليكون دوره محدودا للغاية وهو تلاوة المواد وتصحيحها وفقا لما يتفق عليه؟ سألت نفسى هذه الأسئلة وبصراحة وبتواضع شديد شعرت بقصر قامتى، وعجز همتى، وقلة حيلتى، وبينى وبينه من العمر ثلاثون عاما. أصدقكم القول: لم أكن أعرفه، ولكن من كثرة الهجوم السافل و"التريقة" قررت أن أتعرف عليه، وبعد أن تعرفت على سيرته الذاتية وخبرته العالمية قررت أن أستمر فى مشاهدة التصويت على بنود الدستور، وتابعت كل حركاته وسكناته، وأدركت أن القامات الكبيرة وحدها هى التى تعمل فى صمت. ثم نظرت فى وجوه الجميع وهم يتحدثون، يختلفون، يقاطعهم المستشار الغريانى بقامته القضائية الكبيرة، يحتد أحيانا ولكن سرعان ما تعود الأمور إلى طبيعتها، نظرة فابتسامة فموعد ثم لقاء فى حب الوطن. تابعت الدكتور محمد محيى العائد بعد انسحاب، ورأيته يعارض بقوة، وينافح برأيه بشدة، واعتقدت أنه قاب قوسين أو أدنى من الانسحاب ثانية، ولكننى شاهدته وهو يلقى كلمته المؤثرة، واحترمته وهو يعتذر عن حدته ويذكر بالخير الدكتور أيمن نور، وكنت أسأل نفسى: ما الثمن؟ فأجابنى دون أن يسمعنى وقال: لا شىء سوى حب هذا الوطن. حين يقف الدكتور سليم العوا، وهو من خسر الانتخابات، وكان من الممكن أن يقاطع الدستور، ليعلن بكل فخر أنه فخور بأن التاريخ سيذكر له أنه واحد ممن صاغوا هذا الدستور، وحينما يبكى الغريانى ويبكِّينا معه أسأل نفسى: أى نوع من الرجال هؤلاء؟ إنهم صناع التاريخ. ---------------------------- د. حمزة زوبع [email protected]