حاول ممثل "المحكمة الدستورية" المستشار "ماهر سامى" أن يبرئ ساحة محكمته من التسييس حين قرأ بيانها الذى يقطر حزنا وألما على ما آل إليه حال القضاء فى مصر فى الآونة الأخيرة! ورد الصاع صاعين لهؤلاء الذين هاجموا "المحكمة"، وبادلهم سبابا بسباب، وتجريحا بتجريح، وغابت الرصانة عن "البيان" إلا من الصوت الدافئ للمستشار "ماهر سامى".. ولم يُظهر لنا سيادته لماذا لم يحاسبوا السياسية الشهيرة "تهانى الجبالى"، نائب رئيس المحكمة، لكنه دافع دون حكمة عن إسقاط "مجلس الشعب"، ورغم اللهجة المتمردة فى البيان إلا أن نهايته كانت غير متوقعة، إذ لم يعلن معارضة المحكمة "للإعلان الدستورى"، وفى رده على الأسئلة السريعة لم يعلن رفضهم "الإعلان" ولكنهم يتداولون فى هذا، وحتى تأتى الأخبار بجديدها، فنستطيع أن نتوقع أن بابا كبيرا من الفتنة قد يغلق بانسحاب "المحكمة الدستورية" من دعم معارضى "الرئاسة"، ويبقى موقف "محكمة النقض" المثير للدهشة، الذى أسقط به هيبة "المجلس الأعلى للقضاء"، مما يؤكد أن القضاء ليس كيانا واحدا يعلى شأن العدالة، وإنما فرقاء متشاكسون يوهموننا بالترفع عن السياسة والمصالح وهم والغون فيها إلى الآذان، وإلا فليفسروا لنا معنى إهدار توقيعات كبارهم على البيان المشترك مع "الرئاسة"، والذى لو خالف "الرئيس" بعضه لسمعنا انتفاضة الأسود من حماة العدالة!. ونتوقع أن يواجه القضاة أزمة طاحنة مع "المحامين" والمتقاضين الذين يبحثون عن حقوقهم فيرون محراب العدالة قد أوصد فى وجوههم لأسباب لا يدركونها، حينئذ سيتصدع البيت القضائى الذى لم يؤسس على التقوى فى آخر يوم. وسيبقى للقوى المعارضة سندان كبيران: أولهما: الإعلام: وسيرى المتابع أن "الإعلام" مر بمرحلتين حتى الآن، إذ ظل يومين كاملين بعد "الإعلان الدستورى" يكيل الهجوم القاسى للرئاسة، ويرسم صورة يظن بها المواطن أن (الجميع ضد الرئيس)، ثم بدأ "الإخوان" تحركاتهم المحسوبة، بمظاهرات تأييد فى كل أرجاء مصر، على التوازى مع ارتفاع أصوات تأييد "الرئيس" من النقابات وأساتذة الجامعة والطلاب والشخصيات المستقلة، هنالك بدأ "الإعلام" يعرض الصورة السياسية على أنها (انقسام بين فريقين)، وهذا تطور كبير لصالح "الرئاسة" التى لا تملك شبرا واحدا فى فدان الإعلام الرسمى!!.. والمستقل وطبعا، والمتوقع أن يستمر "الإخوان" ومعهم القوى الإسلامية وبعض القوى المستقلة والليبرالية فى جلب التأييد لإعلان "الرئيس" حتى نرى الكفة قد اعتدلت، أو انقلبت على القوى العلمانية التى غامرت بسمعتها وقبلت التوحد مع حملة "شفيق"، ورجال "مبارك"، وأقطاب "الحزب الوطنى"، وستخرج هذه القوى مجللة بأكاليل الخزى والعار، ولن تستطيع من الآن فصاعدا المتاجرة بدم الشهداء الذين رفع "الرئيس" من سقف تكريمهم حتى وضعه فى "الإعلان الدستورى" الذين يسعون لإسقاطه، بل كيف يسمحون لأنفسهم بعد ذلك أن يطالبوا بمحاسبة النظام السابق وهم يعارضون "الإعلان" الذى أوفى فيه "الرئيس" بعهده فى محاسنهم والثأر لدماء من ظلموهم؟ الآن على القوى العلمانية المتوحدة مع نظام "مبارك" أن تجد خطابا آخر غير "دم الشهداء" أو "وحدة الوطن" أو "الديمقراطية"... فكل هذه القيم قد انتهكوها عيانا، وكانت أعين المصريين شاهدة على جريمتهم... كما لم يعد لهذه القوى من الآن عين تتحدث بها عن "التداول السلمى للسلطة" بعد أن جرَّدت آلاف المأجورين من الحشاشين والمدمنين وأطفال الشوارع من أجل إحراق وتدمير مقار "الإخوان" وحزب "الحرية والعدالة"... وإلى الآن لم نسمع استنكارا واحدا، بل رأيناهم لا يحفلون بشهيد "الإخوان" فى "دمنهور"، ويتغنون بشهيد "محمد محمود" لأن الأول مع "الإعلان" والثانى ضده (رحمهما الله جميعا)، لتتساقط بهذا الأقنعة عن خبايا لم تكن غائبة عن "الإخوان" ولكنها فقط كانت خادعة لبعض أبناء الوطن. أما السند الثانى "للمعارضة العلمانية" فهو الجماهير: وقد نجح المجتمعون فى تظاهرة الثلاثاء الماضى أن يرسموا صورة جيدة مؤقتا، ولكن.. كان ذلك بالتنازل عن شرط (الثورية) أو (طهارة اليد) أو (البراءة من دم الثوار)؛ فرصّوا فى "الميدان" القتلة والنهابين بجوار الثوار، فى (أفكه) تلاحم شعبى لم تعرفه ثورات العالم كله، ولتظل العبقرية العلمانية تلد كل عجيب، لكنها تساعد بقوة على إظهار معادن أدعياء الثورة، الذين أكلت الحرب قلوبهم، بعد أن بدأ يغيب عنهم حلمهم الشيطانى باعتلاء المناصب والسيطرة على مقدرات الوطن بخداع الجماهير... أو رغما عنهم. إذن فوقائع الأيام العشرة الماضية قد أنبأتنا بحقيقتين: الأولى: أن مظاهرات القوى السياسية تختلط بالبلطجية والقتلة والمأجورين؛ مما يؤكد أن استمرارها مرهون بوفرة المال الذى سيدفع لهم، وأنها لا تمتلك تناميا شعبيا يوحى بتعاظمها. الثانية: أن المظاهرات تغشاها (روح منكسرة) للثوار الذين يعيشون فى لحظة تناقص ممزقة، بين ثورتهم على البلطجية والنظام البائد من ناحية، وبين استقوائهم بهؤلاء اليوم من ناحية أخرى، وهذا من شأنه أن يفرز الثوار إلى فصيلين؛ أولهما "ثوار حقيقيون" سينأون بأنفسهم عن هذه الأوحال، ويعارضون "الرئاسة" من منطلقات ثورية نظيفة، وبالتالى سيقفون مع (النظام) وإن عارضوا (الرئيس)... والصنف الثانى "ثوار المنفعة" الذين سيواصلون المشوار إلى النهاية عبر مشروطة مع قيادة القوى العلمانية تضمن لهم جزءا مشهودا من "حلوى النصر". وفى هذه الحالة فإن هذه المعارضة المستأسدة ضد "الرئاسة" سيكون مآلها السكون والهمود، وفى الأغلب إلى الفشل، لأن نجاح مثل هذه المعارضة يعتمد على المباغتة وتضييق عنصر (زمن المعركة) حتى يضمنوا استمرار (حالة خداع) للجمهور، بالإضافة لصمود القدرة على تمويل الجزء المأجور من المتظاهرين، كذلك فإن بروز أى عناصر جديدة فى المشهد قد يربك خططهم، وقد ظهر بالفعل "الدستور" ليكون عامل الحسم لجماهير تتوق لاستقرار الوطن. يزيد من جراح هذه القوى أمران وهما: الأول: هو أن "الرئاسة" مصرة على ألا تخذل شعبها، وأن تواصل طريق "ضبط الأوضاع"، وأن صياح "الإعلام" والتظاهر لن يعيدها إلى الوراء، ويؤيد ذلك تلك الكلمة الدائرة الآن على ألسنة الناس حين يرون "الإخوان" فيقولون لهم "إياك يتراجع المرة دى".. إذن لا "الرئاسة" تنوى الخضوع للابتزاز، ولا الشعب يريدها أن تتراجع.. فأين فرص نجاح السادة العلمانيين؟!. الثانية: هذه الروح المتوثبة التى يتحاكى بها الجميع فى شباب "الإخوان" ومن انضم إليهم مؤيدا "للرئيس"، إذ يبدو أن الضغط الشديد عليهم فى الشهور السابقة، ورغباتهم الجامحة فى قرارات ثورية، كل هذا قد أدى إلى تصاعد روح التبنى "للإعلان" و"للدستور"، وأصبح الشباب يسابقون القيادات فى إقناع العامة بصحة وسلامة "الإعلان" و"الدستور"، على عكس الفترة الصعبة جدا التى بدأت بقرار خوض انتخابات الرئاسة وما بعدها، هذه (الروح) أيضا استفاقت بسبب شعور الشباب فى لحظة عبقرية بأن القرارات السابقة "للجماعة" و"للحزب" والتى كانت محل انتقاد الجميع وهجومهم صائبة، وأن مرشح الشعب والثورة الوحيد كان "د. مرسى"، وأن جميع منافسيه كانوا مرشحى "العسكرى" أما المرشحون المحترمون أمثال "العوا" و"أبو الفتوح" فهم أشخاص محترمون، لكن هذه لم تكن مرحلتهم، وأن الوقت هو وقت رئاسة مسنودة بصلابتها الشخصية، بالإضافة لظهير شعبى منظم وقوى يواجه مغامرات الراسبين، وحين يستقر الأمر سيكون لكل المحترمين دورهم. إن استقرار الوضع السياسى على فريقين: هو تعجيل ربانى بانفراج أزمة "مصر"، حتى ولو كانت المشاهد مرعبة للعامة، كما أن الروح الوثابة "للإخوان" ستنتشر بين قلوب المصريين وتحيى فيهم الأمل الذى حاولت القوى الظلامية أن تدمره فى قلوبهم حتى ينحازوا لها، لكن هذه القوى خسرت، واستعلت روح الحقيقة وظهر نورها. ------------------------------ محمد كمال [email protected]