إن الأوراق التي سقطت من يد الرئيس السابق وهو ملقى على سريره في القفص، هي ذات الأوراق التي غادرت قبضة إسرائيل، فقد كان بحق كنزهم الإستراتيجي.. تلك الأوراق أمست من جديد في يد مصر ورئيس مصر المنتخب، والذي بدأ يبهر العالم بقدرته على ترتيبها وإعادة صياغة سياسة مصر الخارجية من خلالها، ولعلى لا أبالغ إذا ما قلت أن نفس الملفات التي كانت عناصر ضغط على الدبلوماسية المصرية في عهد النظام السابق أضحت في يد الرئيس مرسى عناصر قوة لها، وهى الملف الفلسطيني والملف الإيراني والأقباط، فالأول كان بالنسبة لمبارك كارثة لا يدرى كيف يتخلص منها، والثاني قرر بالفعل أن يحذفه ليس فقط من عقله ولكن من خارطة السياسة المصرية بالكامل إرضاءً لأمريكا وإسرائيل، وأما الثالث، فجلسات الاستماع التي كانت تجري حوله في الكونجرس الأمريكي ما زال صداها يتردد بين أروقته. والمتابع لتصريحات الرئيس أوباما حول أن مصر ليست حليفة لأمريكا ولا عدوة لها، يدرك أنه لم يوجه هذه الرسالة للمصريين فحسب، ولكن للإسرائيليين على وجه الخصوص، بمعنى أن عليكم من الآن أن تتحملوا مسؤولية تصرفاتكم تجاه مصر، فهي لم تعد تابعة مطيعة لنا كما كان في الماضي. ولكي نفهم حقيقة المياه التي أجراها مرسى في هذا النهر، حين أوضح أن مصر لم تعد محايدة فيما يخص القضية الفلسطينية، وأن إيران ليست عدوة، وأخيرا حين صرح في نيويورك أن الأقباط ليسوا أقلية في مصر، أقول لكي نفهم المتغير الإستراتيجي في السياسة المصرية، تعالوا نسترجع سويا حادثة واحدة أسدلت الستار على عصر مبارك، ومن عجب أن الملفات الثلاثة قد تم استخدامها دفعة واحدة فيها، ألا وهى حادثة كنيسة القديسين، فبينما كنت جالسا أشاهد عمر أديب مستضيفا خبيرا إستراتيجيا بعيد الحدث، إذا بالضيف يفاجئني بقوله: "سيتضح في النهاية أن من قام بالتفجير هم مجموعات إرهابيه ترعاها حماس في غزه وتأخذ أوامرها من إيران، وقد عبرت إلى مصر عبر الأنفاق"، ويبدو أن ذلك قد كان تمهيدا لما أعلنه وزير الداخلية حينها حبيب العادلي بنفسه أمام الرئيس السابق من أن ما قاله السيد الخبير صحيح تماما في محاولة لإيجاد مبرر للحكومة المصرية آنذاك لغض الطرف، والتماس العذر لدى الشعب المصري عن ما كان مخططا له من ضربة عسكرية جديدة لغزه بواسطة جيش الاحتلال الإسرائيلي. إذ أنه حسب زعمهم قد اتضح أن هناك إرهابيين فلسطينيين يعيشون في غزة وممولين من إيران لقتل الأقباط في مصر، هكذا وبكل بساطه دون أن يسأل أحد نفسه: أين إسرائيل في هذا المشهد؟ والعجيب أن العقلية الإسرائيلية لم تستطع أن تستوعب عمق التغيير الحادث في مصر بعد الثورة، فما زالت تعتمد ذات الأساليب القديمة، وكأننا أخيب في اعتقادهم من أن نجيب عن سؤال: من المسئول عن ما يحدث على الحدود بين مصر وإسرائيل؟ وهل يمكن أن تكون حماس؟ من المؤكد أن حماس أبعد ما تكون عن تلك الأحداث، فهي تبحث عن طريقه لترسيخ حكمها، خصوصا بعد التغيير الحادث في مصر بعد تنحى مبارك، وعليه فهي في سعى إلى التهدئة لتحصيل استحقاقات أكبر وأعمق، تتمثل في وحدة فلسطين وإعلان دولتها. إذن ربما تكون مصر؟ هذا أيضا مرفوض، لأن المصريين لا ينقصهم في هذه اللحظات بالذات توتر على الحدود الشرقية، وهم في بداية مشروعهم لإنشاء دولة ديمقراطية حديثة، وعليه فالبحث عن المستفيد هو ما سوف يظهر المسئول عن هذه الأحداث، وأتصور أن المستفيد من هذه الأحداث هو إسرائيل ذاتها، أولا للتغطية على المشكلات الداخلية لديها، ثم لإيجاد مبرر للهجوم على غزه، وقد كان مخططا له من قبل، وأخيرا طمعا في أن تظل مصر في غياهب تبعيتها للولايات المتحدةالأمريكية، إلا أن ظروف أوباما الانتخابية قد جعلته يلقى بالقفاز سريعا في وجوههم، والمراقب لطريقة تنفيذ معظم العمليات الإرهابية يجد أنها تقريبا تصاغ في صورة واحدة، يدعى فيها أن المتسللين قدموا من الحدود مع مصر وربما كان بعضهم كان يرتدى الزى العسكري المصري أو السيناوي مما يجعل موقف مصر متحيرا، حيث ترى نفسها متهمة على الأقل بالتراخي في حماية الحدود المشتركة، خصوصا وأن بعض هذه العمليات حسب ما نشر كانت مركبة مما يعنى أن عملا لوجستيا استخباراتيا قد سبقها، مما يمكن أن تتهم به الدول وليس التنظيمات أو الطوائف قليلة الحيلة. ولكن استعجال الإسرائيليين في ردة فعلهم دائما ما يكشف الجزء الأكبر من مخططهم، ففي خلال 3 ساعات على الأكثر تقوم إسرائيل بالرد، مما لا يدع مجالا للشك في أن العمليات كانت دائما برمتها تحت بصرهم قبل بدايتها، وهذه هي مشكلة معظم التنظيمات الفلسطينية أنها مخترقه تماما من جانب الإسرائيليين، فهم على ما يبدو دون أن يدركوا، يقبلون التمويل والسلاح، بل والتوقيت الذي يحدده جهاز الموساد عن طريق عناصره المزروعة داخل تلك التنظيمات دون تفكير، لاعتقادهم أن في هذا مرضاة لله ورسوله، ثم يجروا وطنا بأكمله إلى المجهول. إن الحكمة التي توارثناها من حرب أكتوبر هي افعل أنت ما لا يتوقعه العدو، وليس ما رتبه لك العدو أن تفعله، فكما أن عبد الناصر سقط في فخ إغلاق مضيق العقبة، وصدام سقط في فخ غزو الكويت، فإن منتهى أماني إسرائيل أن تسقط مصر في هذا الفخ الآن وتسمح بتواجد بؤرة مقاومة داخل سيناء على حدودها الشرقية مع إسرائيل بديلا عن حزب الله في لبنان، والذي لا تأتى الإشارات مبشرة عن قدرته على البقاء بعد تهاوى النظام في سوريا، حيث من المعروف أن بارونات الحرب في إسرائيل لا بقاء لهم ولا لدولتهم بغير تهديد خارجي مزعوم يكفل لإسرائيل الدعم المادي والعسكري لبقائها كمحافظ على خطط الغرب وأمريكا في الشرق الأوسط، وهذه هي المعادلة المعروفة منذ نشأة إسرائيل (احموني كي أحمي مصالحكم). ولكن كما عودتنا هذه العطية الربانية لمصر ألا وهى (ثورة 25 يناير) بأن كل ما يحاك ضدها يأتي في النهاية لصالحها، فإن مصر أصبحت في وضع سياسي يؤهلها للقيام بتغطية سيناء بالكامل بما فيها المنطقة (ج) بقدرات القوات المسلحة المصرية التامة غير المنقوصة، ليس تحت دعوى حماية الحدود المصرية الشرقية ولكن لحماية الجار اللدود أيضا، ومن هنا بدا واضحا أن إسرائيل لم تعد تمتلك سوى خيارين كلاهما عليها مر، فإما أن تقبل بالأمر الواقع أو أن تطلب بنفسها تعديل بنود اتفاقية السلام.