في ظل دولة راسمالية متوحشة لا ترحم الفقير ولاتنحاز للضعفاء، أصدر كلا من وزيرا الصحة ووزير التنمية المحلية، في 4 مارس الجاري، لائحة جديدة للمستشفيات والوحدات الصحية الحكومية، تتضمن إعادة تسعير الخدمات الصحية التي تقدمها المنشآت الصحية الحكومية التابعة للوزارتين، باستثناء التطعيمات الإجبارية للأطفال والطوارئ ومبادرات الصحة العامة التي ما زالت بالمجان، وذلك لدعم توفير مستلزمات تشغيل المستشفيات، بحسب المتحدث باسم وزارة الصحة، د حسام عبد الغفار، في تصريحات إعلامية مؤخرا. ومنذ أمس السبت، بدأت المستشفيات العامة والنوعية، والوحدات الصحية، في جميع أنحاء الجمهورية، رفع أسعار جميع الخدمات التي تقدمها للمرضى، كما تضمنت اللائحة التي بدأ تطبيقها، تقليص نسبة أسِرَّة العلاج المجاني بالمستشفيات إلى 25%، مع منح تخفيضات تصل إلى 30% من قيمة العلاج لغير القادرين.
خصخصة متوحشة للصحة
ووفق أطباء ومراقبين، فإن اللائحة الجديدة هي إعلان عن بداية خصخصة القطاع الصحي المملوك للحكومة وتمويله من جيوب الناس، وبحسب مدير برنامج الحق في الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، علاء غنام، فإن اللائحة الجديدة تسري على جميع المنشآت الصحية التابعة لمديريات الشؤون الصحية بالمحافظات، التي يلجأ إليها المواطنون الأكثر فقرا في جميع محافظات البلاد.
يشار إلى أنه في الثالث من مارس الجاري، أصدر وزيرا الصحة والتنمية المحلية، لائحة جديدة للمستشفيات ومراكز الخدمات العلاجية والوحدات الصحية ومكاتب الصحة، تتضمن زيادة الموارد المالية الذاتية للمنشآت الصحية لصالح صندوق لتحسين الخدمة بكل منها.
وتضمنت اللائحة التي أصدرها الوزيران برقم 75لسنة 2024 ونشرتها جريدة الوقائع المصرية الأحد الماضي، رفع أسعار تذاكر العيادات الصباحية من جنيه إلى عشرة جنيهات في المستشفيات العامة، وخمسة جنيهات في الوحدات الصحية، على أن يجوز مضاعفة كل منها خمس مرات، بعد موافقة مديرية الصحة المختصة.
وبالإضافة إلى تقليص نسبة العلاج المجاني بالمستشفيات العامة من 60% في اللائحة القديمة، إلى 25% في اللائحة التي بدأ تطبيقها في الرابع من مارس الجاري، استحدثت اللائحة الجديدة نصًا يحدد المستحقين للعلاج المجاني في تلك المستشفيات، وحصرتهم في ست فئات هم: الحاصلون على معاش تكافل وكرامة، والمعاقون حاملو بطاقات الخدمات المتكاملة، وأسر شهداء ومصابي الجيش والشرطة، وهذه الفئات، وفقًا للائحة، تحصل على العلاج دون أي إجراءات، أما الباقي فهم من لا يتمتعون بنظام تأمين صحي أو رعاية صحية، وحالات الطوارئ والحوادث التي تتطلب التدخل السريع لإنقاذ حياة المريض، أو من يخشى تفاقم حالته، فاشترطت اللائحة حصولهم على توصية من لجنة البحث الاجتماعي بالمستشفى وموافقة لاحقة من مدير المستشفى، وبخلاف تلك الفئات، لم تحدد اللائحة الجديدة أي آلية لعلاج غير القادرين ماديا باستثناء سلطة مدير المستشفى في منحهم خصم لا يتجاوز 30% من تكاليف الخدمة بعد خصم قيمة الأدوية والمستلزمات.
وبموجب اللائحة الجديدة، يشكل بكل مستشفى أو مركز علاجي أو وحدة صحية تابعة لوزارتي التنمية المحلية والصحة، مجلس إدارة بقرار من المحافظ وبرئاسة مدير المنشأة الصحية، وعضوية عدد من المشرفين على القطاعات المختلفة بها (نائب المدير – رئيس الهيئة الطبية – رئيسة التمريض – مدير الصيدلة – المدير المالي والإداري)، بالإضافة إلى إحدى الشخصيات العامة المهتمة بالصحة، ومن يراه المجلس من ذوي الخبرة، وأمين سر يتم اختياره من الإداريين العاملين بالمنشأة الصحية، على أن يجتمع هذا المجلس مرة كل شهر على الأقل ويتم صرف مقابل حضور لكل الأعضاء من صندوق تحسين الخدمة بالمستشفى، يحدد بقرار من رئيس الوزراء.
ويختص مجلس الإدارة بكل السلطات والمسؤوليات اللازمة لإدارة المستشفى أو الوحدة الصحية، وحددت اللائحة الجديدة من بين تلك المهام، إدارة صندوق تحسين الخدمة بها، وإعداد الموازنة التقديرية لها والحساب الختامي في نهاية كل سنة مالية، فضلا عن التعاقد مع الهيئات والشركات لتقديم المنشأة الصحية الخدمة الطبية للأفراد التابعين لها، والتعاقد مع الجهات الأخرى (القطاع الخاص) لتوفير الخدمات الطبية المميزة التي لا تتوافر أجهزتها بالمنشأة الصحية مقابل أسعار متفق عليها، بالإضافة إلى الموافقة على طرح أو تشغيل الأماكن التي تخصصها للبيع الحر للمنتجات والسلع داخل المنشأة الصحية وتودع إيرادات كل مستشفى، بموجب اللائحة الجديدة، في حساب صندوق لتحسين الخدمة بالبنك المركزي، بعد خصم تكاليف الأدوية والمستلزمات الطبية لقسم العلاج بأجر ورواتب العمالة المؤقتة (العقود الثابتة تدفع من ميزانية المالية)، على أن يتم توزيع الإيرادات المتبقية بواقع 50% من الإيرادات للمزايا المالية الإضافية للعاملين بالمستشفيات، و37% للمساهمة في نفقات تشغيل للاستعانة بأطباء من خارجها، أما ال13% المتبقية فيتم تخصيصها لصناديق بمديرية الشؤون الصحية التي تتبعها المستشفى لتحسين الخدمة ودعم الدراسات العليا للأطباء بنسبة 9%، إلى جانب دعم صناديق أخرى بوزارة الصحة بنسبة 4%.
منع صرف الأدوية
وبعد إصدار اللائحة واستنادا إليها، أصدر وزير الصحة، في 5 مارس الجاري، قرارا بقصر صرف العلاج للمترددين على العيادات الخارجية بالمنشآت الصحية الحكومية على صنف واحد مجاني من قائمة الأدوية الأساسية الموصوفة له.
تغوّل على حقوق غير القادرين في العلاج
اللائحة الجديدة، تعد إعلان قتل بطئ لملايين الفقراء من المصريين، الذين يعتمدون على المستشفيات الحكومية، وتغول على حقوقهم الدستورية، المنصوص عليها، بالحق في العلاج والخدمة الصحية.
فزيادة قيمة الكشف بالعيادات الخارجية للمستشفيات العامة ليصبح عشرة جنيهات، مع العلم بأن قيمة الكشف حاليا بمعظم المستشفيات العامة تتراوح بين جنيه واحد وخمسة جنيهات، ليس العائق الرئيسي أمام وصول غير القادرين للعلاج، بما أن تكاليف الكشف لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من تكاليف التحاليل والفحوصات الأخرى التي سيتحمل المواطن دفع تكاليفها بعد تطبيق اللائحة الجديدة، والتي تتضمن زيادة أسعار جميع الخدمات الصحية التي تقدمها المستشفيات الحكومية، وفق ايهاب الطاهر نقيب اطباء القاهرة السابق، وشدد الطاهر على أن الغالبية العظمى من مرضى المستشفيات العامة غير قادرين على تحمل تكاليف العلاج بأجر.
يشار إلى أنه منذ فترة زمنية، قامت بعض لمستشفيات التابعة لمديريات الصحة برفع سعر التذكرة إلى عشرة جنيهات منذ فترة طويلة، وتتقاضى مقابلا رمزيا نظير إجراء الفحوصات والتحاليل الطبية والإشعات وغيرها، قبل نشر اللائحة الجديدة في الجريدة الرسمية ودخولها حيز التنفيذ.
وعن مجلس إدارة المستشفيات، أوضح مدير مركز الحق في الدواء، محمود فؤاد، أن اللائحة الجديدة حولت الانضمام إلى مجلس الإدارة من عمل تطوعي إلى عمل بأجر، وقلصت من صلاحيات مديريات الصحة ووزارة الصحة على المستشفيات لصالح مجلس إدارة بكل مستشفى، فمنحت كل مجلس سلطة اتخاذ قرارات تخص المستشفى التي يديرها بمعزل عن باقي المستشفيات.
تدبير موارد ذاتية بعيدا عن الدولة
ويمكن استقراء خطوة تشكيل مجالس إدارات مستقلة بالمستشفيات، بأنها خطوة لتخفيف الأعباء عن ميزانية الدولة، إذ ألزمت اللائحة مجلس الإدارة بالبحث عن موارد تُدّر ربحا على المستشفى الحكومي، وذلك على الرغم من أن المستشفيات العامة والنوعية والوحدات الصحية التي تطبق عليها اللائحة بنيت من أموال دافعي الضرائب، لتوفر الخدمة الصحية للفقراء وليست لتحقيق الربح.
الرسالة التي تريد الحكومة إيصالها من وراء تلك للائحة أنها «عاجزة ماليا عن إدارة المستشفيات والوحدات الصحية الموجودة في المحافظات والقرى، نتيجة عدم وجود موارد، وأن الفرصة سانحة للقطاع الخاص للدخول وتقديم الخدمة عبر زيادة حصته في تلك المستشفيات والوحدات شيئا فشيئا»، بحسب تقديرات الخبراء والمراقبين.
وتعبر اللائحة في مجملها عن تخبط السياسة الحكومية تجاه إدارة ملف الصحة، ففي الوقت الذي تعلن فيه وزارة الصحة عن استعدادها لتدشين المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل في خمس محافظات جديدة، لتوفير الخدمة الصحية لجميع المواطنين، تصدر لائحة لرفع أسعار الخدمات الصحية وتقليص نسب العلاج المجاني في عدد كبير من المستشفيات العامة.
والأدهى من ذلك، أن تقليص موازنة الصحة ، تترافق مع تقليص موازنة التعليم أيضا، في مقابل توسيع مخصصات القضاء والشرطة والجيش، وإطلاق يد وأموال البلد في مشاريع بعيدة عن حاجة المواطن العادي، ولا يستفيد منها سوى الأغنياء، فقط، في انحياز واضح ضد الفقراء الذين بات عليهم أن يكون مصيرهم الموت البطئ بنقص الخدمة الصحية وإلغاء العلاج المجاني، والجهل بتقليص موازنة التعليم وتوسيع خدمات التعليم الخاص، وهو ما يقدح في أي أحاديث عاطفية يطلقها النظام، بانحيازه للفقراء أو المعوزين.