التجربة تؤكد أن تعويم الجنيه أمام الدولار ليس حلا لأزمة مصر المالية والاقتصادية؛ بل العكس هو الصحيح؛ فكلما تم خفض قيمة الجنيه زادت المشاكل وغلت الأسعار وارتفعت نسبة الفقر والبطالة والجريمة. التعويم لا يمكن أن ينجح إلا إذا كان هناك غطاء دولاري قادر على الاستجابة لأي طلب على الدولار بعد التعويم، وبالتالي تتوقف المضاربة على الدولار ويتوقف الناس عن الدولرة (الادخار بالدولار)، لكن إذا تم خفض الجنيه إلى أدنى المستويات (الدولار= ألف جنيه) فهل يحل ذلك المشكلة إذا كان الدولار نفسه غير موجود؟! بالطبع لا. الحل بكل بساطة هو توفير الدولار بما يساوي حجم الطلب عليه، وإذا توافر وكان المعروض أكثر من الطلب يكون أفضل للاقتصاد. وذلك لن يتحقق إلا بزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي وزيادة الدخل القومي من السياحة والقناة وتحويلات المصريين بالخارج. ولا يكون ذلك أيضا إلا بتقليل فاتورة الاستيراد والتخلي عن صفقات السلاح المليارة والسلع الاستفزازية التي ترهق فاتورة الاستيراد بلا لزوم. كذلك يتعين التوقف عن سياسات الاقتراض التي دمرت اقتصاد البلاد لدرجة أن نصف إيرادات الموازنة العامة للدولة توجه نحو سداد أقساط وفوائد الديون، وهي نسبة مهولة لأن ذلك يعني أقل من نصف موارد الدولة يوجه للإنفاق الحقيقي (الأجور والمرتبات الدعم الاستثمار). السياسات الفاشلة للنظام أدت إلى أزمة كبرى في موارد الدولة الدولارية؛ حيث تضخمت فاتورة الاستيراد وقل الإنتاج وتراجعت موارد الدولة؛ فشح الدولار واختفى من البنوك في ظل تكالب المستثمرين والتجار على شرائه بأي ثمن من أجل إتمام تعاقداتهم مع الشركات الأجنبية. وأدى تآكل قيمة الجنيه وانخفاضه على الدوام إلى فقدان الثقة فيه ما دفع قطاعات واسعة من الجماهير نحو اكتناز الدولار على أمل أن يحقق ذلك لهم مكاسب كبيرة مع الارتفاع المستمر للدولار أمام الجنيه. وظهرت السوق السوداء حتى أصبح الفارق نحو "10" جنيهات بين السعر الرسمي (30.95 جنيها)، والسعر الموازي (أكثر من 40 ج). ومع عدم اليقين باستمرار والشائعات حول تعويم مرتقب للجنيه وخفض قيمته بات التجار يتعاملون مع الدولار على أساس قيمته المستقبلية المرتقبة أو المتوقعة بعد التعويم المحتمل على الدوام؛ الأمر الذي قتل السوق وأصابها بركود طويل وغير مسبوق. عدم اليقين دفع صحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانية في تقرير لها في 17مايو 2023م تحت عنوان: "أسوأ أزمة عملات أجنبية تواجهها مصر منذ سنوات"، إلى التأكيد على أن عدم استقرار سعر صرف الدولار في مصر يؤثر على القطاع الصناعي، والمعاناة الحالية للحكومة في تمويل الواردات وجذب المستثمرين. وينقل التقرير عن رواد أعمال تحذيرهم من أن عدم اليقين بشأن سعر الصرف في مصر يخنق الأعمال ويعيق قدرتهم على التخطيط والاستثمار، في وقت تعاني البلاد من أسوأ أزمة للعملة الأجنبية منذ سنوات. وتساءل التقرير عن فشل التعويم وتفخيض قيمة الجنيه إلى النصف منذ مارس 2022 في تعزيز تدفقات النقد الأجنبي، بعدما هرب نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصري في فبراير 2022م مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. كما تساءل التقرير عن أسباب عدم الاستفادة في تقوية الجنيه بعدما تدخلت دول الخليج بودائع بقيمة 13 مليار دولار ومشتريات أصول أخرى بقيمة 3.3 مليار دولار، في منتصف 2022م، ورغم ذلك ظل مستثمرو المحافظ بعيدين في الغالب، وواجه القطاع الخاص صعوبة في تمويل الواردات. وتنقل الصحيفة عن مصرفي كبير قوله إن هناك عملة أجنبية كبيرة في البلاد، تم جمعها من السياحة ومصادر أخرى، لكن الناس يحتفظون بالدولار لتحقيق مكاسب أكبر من خفض قيمة الجنية أكثر.
لغز يحتاج إلى تفسير بيانات الحكومة المصرية تكشف عن زيادة موارد النقد الأجنبي العام الماضي"2021/2022" عن العام السابق عليه "2020/2021" بنسبة بلغت 14%؛ فقد حققت مصر موارد دولارية من كل القطاعات قدرها "148" مليار دولار. بينما بلغت المدفوعات "158" مليار دولار، ليسفر الميزان الكلي للمدفوعات عن عجز بلغ 10 مليارات دولار فقط! ويظل السؤال الجوهري: كيف لدولة حصلت على موارد من النقد الأجنبي مجموعها 148 مليار دولار أن تشهد نقصا في العملات الأجنبية؟! هذا النقص حسسب الخبير الاقتصادي ممدوح الولي هو الذي يسمح باستمرار السوق الموازية للصرف الأجنبي، وتسبب فى خفض قيمة الجنيه المصري أكثر من مرة، كما تسبب فى خفض وكالتي "موديز" و"فيتش" للتصنيف الائتماني لمصر للمرة الأولى منذ عام 2013، وتعديل النظرة المستقبلية إلى الاقتصاد المصري من مستقرة إلى سلبية، وهي النظرة التي اتفقت معهما فيها وكالة ثالثة هي "ستاندر آند بور". ولحل هذا اللغز ينبغي أن نعرف أن العجز الحقيقي لميزان المدفوعات المصري لا يقتصر على المليارات العشرة التي يظهرها الفارق بين الموارد والمدفوعات، وإنما يتضمن قيمة القروض والودائع والتسهيلات الأجنبية البالغة 31 مليار دولار، وبهذه الصورة يبلغ 41 مليار دولار، وهو رقم كبير يمثل أكثر من 3 أضعاف دخل السياحة و4 أضعاف صافي الاستثمار الأجنبي المباشر و5 أضعاف عوائد قناة السويس. وكانت أبرز موارد النقد الأجنبي حسب بيانات البنك المركزي المصري في عام(2021/2022): قروض وودائع وتسهيلات (31 مليارا)، صادرات غير بترولية (26)، وصادارت غاز ونفط ومشتقات (19)، سياحة (12)، صافي الاسثتمار الأجنبي المباشر "اموال ساخنة" (11)، خدمات غير النقل والسياحة (4)، خدمات لوجستية في الموانئ المصرية (4)، تحويلات المصريين (28)، قناة السويس (8). أما أبرز المدفوعات فكانت كما يلي: أقساط الدين الخارجي (17)، فوائد الديون المصرية الخارجية والودائع الاجنبية (19)، واردت سلعية غير بترولية (67)، واردات بترولية خام وغاز طبيعي من إسرائيل (15)، سياحة المصريين بالخارج (5 مليارات)، مبيعات الأجانب لأدوات الدين المصرية وتعاملاتهم بالبوصة (22)، مدفوعات غير لنقل والسياحة (5) خدمات لوجستية لوسائل النقل المصرية في الموانئ الأجنبية (3)، مصروفات حكومية تنقلات المسئولين (2).
الدولارات ليست من نصيب الحكومة والسبب الرئيس لاستمرار نقص الدولار رغم زيادة الموارد هو أن البنك المركزي يحتسب الموارد الداخلة إلى البلاد أيا ما كانت الجهة التي تحصل على تلك الموارد، وهنا نجد أن أغلبية الموارد الأجنبية لا تتجه إلى الحكومة، وإنما إلى القطاع الخاص سواء كان مصريا أو عربيا أو أجنبيا، وهي بهذه الصورة لا تستطيع استخدام هذه الموارد في شراء ما تحتاجه من حبوب وسلع غذائية ومشتقات بترولية أو في سداد أقساط الديون. على سبيل المثال، فحصيلة الصادرات غير البترولية البالغة 26 مليار دولار لا تحصل منها الشركات المملوكة للحكومة إلا على نصيب محدود، بينما يتجه معظمها إلى حسابات شركات القطاع الخاص العاملة في مجال التصدير سواء كان مالكوها من المصريين أو الأجانب، وهذه الشركات غير ملزمة بإيداع ما تحصل عليه من عملات أجنبية في البنوك المصرية، إذ يلجأ بعضها إلى احتجاز جانب من حصيلة صادراته في الخارج ليستخدمها فى تمويل وارداته من المواد الخام ومستلزمات الإنتاج. الحال ذاته مع صادرات البترول والغاز الطبيعي، فالشركات الأجنبية العاملة في هذا المجال في مصر تحصل على نسبة قد تكون أكبر من نسبة الحكومة من عوائد تلك الصادرات، ويتكرر الأمر مع الشركات السياحية وشركات خدمات النقل وغيرها، حيث تلجأ كثير من تلك الشركات إلى تحويل مكاسبها إلى الخارج. ولذلك لا يكون مستغربا أن تشير بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر للعام المالي 2021/2022 في قطاع البترول والغاز الطبيعي إلى أن قيمة الاستثمارات الداخلة إلى مصر بلغت 4.69 مليارات دولار، أما قيمة الخارجة منها فبلغت في الفترة نفسها 7.3 مليارات دولار بصافي عجز يبلغ 2.6 مليار دولار.
تحويلات الخارج للأهالي لا الحكومة تحويلات المصريين في الخارج هي أيضا من البيانات التي تؤدي إلى سوء الفهم، فمعظم هذه الأموال تتجه إلى أسر هؤلاء المغتربين ولا تذهب إلى الحكومة، وهذه الأسر تقوم ببيع ما لديها من عملة أجنبية كلما اقتضت ضرورات المعيشة ذلك، وربما فعلوا ذلك في السوق السوداء وليس عبر القنوات الرسمية ليستفيدوا بفارق سعر الصرف. وبذلك فإن ما تحصل عليه الحكومة حقا من العائدات الدولارية يتمثل بصورة أساسية في إيرادات قناة السويس وعوائد الخدمات التي تقدمها القنصليات المصرية في الخارج، وبعض من حصيلة صادرات النفط والغاز الطبيعي، وحصة صغيرة من عوائد الصادرات السلعية ومن فوائد الودائع الحكومية في الخارج التي قد تكون مملوكة لبنوك عربية أو أجنبية تعمل في مصر.
الإيرادات السياحية غير دقيقة ملحوظة أخرى تخص الإيرادات السياحية البالغة 12.2 مليار دولار، فليس هناك ما يضمن دخول هذه الإيرادات إلى البلاد، لأن احتسابها يتم بصورة تقديرية معتمدا متوسط إنفاق السائح خلال إقامته بمصر الذي يدور حول 80 دولارا في الليلة لكل من دخل البلاد وقضى بها أكثر من 24 ساعة حسب التعريف الدولي للسائح الذي لا يأخذ "الجنسية" في الاعتبار. هذا الرقم التقديري إذن يحتسب الأفارقة الذين يمرون بمصر وقد يقضون فيها ليلة في طريقهم إلى دولة أوروبية، أو أولئك السودانيين الفارين من الحرب الأهلية، وهؤلاء وأولئك لن ينفقوا هذا المبلغ في الحقيقة. السائحون الإسرائيليون أيضا الذين يعبرون الحدود من دون تأشيرة إلى مدن جنوبسيناء -وفق اتفاقية كامب ديفيد- يجلبون معهم في العادة مستلزمات إقامتهم من خيام وطعام وشراب وألعاب وسيارات، وبالكاد لا ينفقون شيئا في مصر، على عكس ما تتوقعه حسابات البنك المركزي. وسياحة الشارتر كذلك، وهي مدعومة من الخزانة المصرية، تتسبب في ما يسمى "حرق الأسعار"، أي التنافس في تقديم الخدمات بأرخص الأسعار وبقيم أقل كثيرا من الأسعار العالمية ومما تفترضه الحكومة، وهذا النوع من السياحة ينتشر بكثرة في مدن البحر الأحمر السياحية. والبنك المركزي المصري يعالج حسابيا هذا النقص في الإيرادات السياحية الحقيقية عن الأرقام المُعلنة لها، ضمن بند "السهو والخطأ"، وهو البند الذي حقق تدفقا سلبيا إلى خارج البلاد بقيمة 2.7 مليار دولار العام الماضي.