ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على جميع دول العالم، لكن المنطقة العربية تعتبر من أكثر المناطق تأثرا بهذه الحرب العدوانية؛ ذلك أن نظم الحكم العربية للأسف تخلت عن حماية أمنها القومي بتجاهل أهم مقومات الدول وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، فالدول العربية كافة تستورد معظم غذائها من الخارج، لا سيما الحبوب من روسياوأوكرانيا. والسبب الرئيس في ذلك، اعتماد حكومات المنطقة على غيرها من دول العالم في تأمين غذائها وإطعام شعوبها. فبينما تشكل الدول العربية نحو 5% من سكان العالم، تستورد 20% من كمية الحبوب المتاحة للتجارة الدولية، ولا تنتج سوى 2.5% من الإنتاج العالمي للحبوب. وتستورد نحو 60% من احتياجاتها من القمح اللازم لصناعة رغيف الخبز من روسيا في أقصى شمال شرق أسيا ومن أوكرانياوفرنسا ورومانيا في أوروبا. وتستورد 65% من احتياجاتها من زيوت الطعام من ماليزيا وإندونيسيا. وتستورد 25% من الأرز من الهند وتايلاند في جنوب شرق أسيا. وتستورد 65% من أعلاف الحيوانات من الذرة الصفراء وفول الصويا من الولاياتالمتحدة وكندا في أميركا الشمالية. وتستورد 60% من استهلاكها من السكر من البرازيل في أميركا الجنوبية. وتستورد الحليب ومنتجاته من الجبن والزبد من فرنسا وهولندا والدنمارك في أوروبا. وهكذا، تهدر الحكومات العربية الأمن الغذائي وتضع أمن المواطن العربي واستقراره رهن الاستقرار السياسي واعتدال المناخ في تلك الدول المصدرة للأغذية. في ظل هذه الحقائق المؤلمة، فإن ادعاء البعض أن هذه الحرب لا تعنينا هو من قبيل الجهل وقصور الإدراك، فالدول العربية كافة باتت في قلب الأزمة وأكثر المتأثرين سلبا بها، بل إن استمرار تلك الحرب فترة أطول قد تكبد الاقتصادات العربية خسائر فادحة تقدر بمليارات الدولارات. وألقت هذه الحرب بظلالها على المنطقة من عدة أبعاد لكن أبرزها التداعيات الاقتصادية المحتملة للحرب. أولا، جاء التأثير عاجلا بتراجع التعاملات في البورصات العالمية والعربية حيث خسرت بورصات مصر والخليج عدة مليارات في تعاملات صباح الخميس بمجرد الإعلان عن الغزو الروسي. وخسرت بورصة مصر وحدها نحو 15 مليار جنيه. ثانيا، وفق الأرقام، فإن 40% من صادرات الحبوب الأوكرانية توجه إلى دول المنطقة، خاصة إلى مصر ودول الخليج والأردن. وروسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، ومصدر رئيسي وتاريخي للحبوب المتدفقة إلى دول المنطقة، خاصة القمح والذرة والشعير والزيوت النباتية، ومصر أكبر مستورد للقمح في العالم. وبالتالي، فإن كلفة شراء العرب للأغذية البالغة حاليا نحو 100 مليار دولار سترتفع، خاصة إذا ما أثرت الحرب على امدادات الحبوب الروسية والأوكرانية لأسواق العالم، علما أن الدولتين، روسياوأوكرانيا، يصنفان حاليا على أنهما سلة غذاء العالم. ثالثا، الغزو الروسي لأوكرانيا أدى إلى حدوث قفزة في أسعار النفط ليتجاوز 106 دولارات للبرميل أيضا، وهناك توقعات باستمرار تلك الزيادات خاصة مع عدم وجود حل في الأفق لتلك الأزمة. صحيح أن دولاً عربية نفطية مثل الخليج والعراق والجزائر ستستفيد من تلك الزيادات المتواصلة في أسعار النفط، لكن في المقابل، فإن هذه الدول وغيرها ستتكبد تكاليف ضخمة مع زيادة أسعار الأغذية المتوقعة في الأسواق العالمية. في المقابل سوف تزداد تلك الخسائر لدى دول عربية أخرى مستوردة للغذاء بشكل كبير، منها مصر والسعودية والإمارات وتونس والأردن والمغرب والجزائر والسودان ولبنان واليمن، مع التذكير هنا بأن التضخم المتواصل في أسعار الغذاء يهدد بحدوث اضطرابات سياسية بالدول التي تعاني من أزمات اقتصادية ومالية كما حدث في العام 2010. رابعا، تعتبر روسيا من أكبر موردي الغاز في العالم، ونحو 40% من غاز أوروبا يأتي من روسيا، ومع توقف إمدادات الغاز الروسي فإن ذلك من شأنه رفع أسعار غاز الطهي إلى مستويات قياسية وغير مسبوقة، وبالفعل قفزت العقود الأوروبية للغاز الطبيعي بنسبة 35% مرة واحدة. معنى ذلك أن أسعار الوقود مرشحة لزيادات كبرى بما فيها البنزين والسولار وغاز الطهي، وهو ما يمثل عبئا إضافيا على الموازنات العربية واحتياطيات النقد الأجنبي. خامسا، من المتوقع أن تؤثر الحرب الروسية الأوكرانية أيضا على حركة التجارة الدولية، وبالتالي على حركة الشحن ونقل البضائع والسلع في الممرات المائية ومنها قناة السويس، وهو ما يغذي موجة التضخم التي تجتاح العالم، ومنها المنطقة العربية. وسوف تزداد فاتورة هذه الخسائر تبعا لسيناريوهات الحرب، فإذا توقفت عند حدود الحرب الخاطفة سوف يوقف نزيف الخسائر بخلاف لو تحولت إلى حرب عالمية ثالثة فإن ذلك كفيل بتدمير اقتصادات عدة دول ونشوء مجاعات في دول أخرى ما ينذر بتحولات سياسية كبرى وتغيير واسع في خريطة التحالفات الدولية؛ فالعالم قبل غزو أوكرانيا ليس هو العالم بعدها. خلاصة الأمر أن بلادنا العربية والإسلامية ظلت تحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء حتى في فترة الاحتلال التي امتدت من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ومع بدء نشوق الدولة الوطنية الحديثة في أعقاب الاحتلال، تمكن المحتلون السابقون من تسليم البلاد العربية لحكومات رفعت شعارات الوطنية والقومية لكنها في الواقع تخلت عن حماية الأمن القومي لبلادها وتخلت طواعية عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء لتجعل بلادنا العربية خاضعة باستمرار للابتزاز الغربي. ولم تكن الهيمنة الأميركية في حاجة لاستخدام القوة لإجهاض مشاريع الاكتفاء الذاتي والسيطرة على الأمن الغذائي العربي. فقد تخلت الأنظمة العربية الثورية التي دعمتها الولاياتالمتحدة في دول المنطقة عن السيادة الغذائية طواعية، ورهنت الأمن الغذائي للغرب. ومع قيام الثورة الخضراء في أوروبا والولاياتالمتحدة في النصف الثاني من القرن الماضي، استخدمت الأخيرة الغذاء سلاحاً لترويض الشعوب وترهيب الأنظمة التي تحاول التحرر من التبعية الغربية، لكنها تبقى مكبلة بأنظمة استبدادية لا يعنيها سوى السلطة والحكم ونهب الثروات دون حساب أو مساءلة أو حتى وازع من ضمير أو خوف من حساب الله.