جاءت سيطرة قوات الشرعية في طرابلس على قاعدة الوطية العسكرية المهمة (50 كم) لتربك حسابات طغاة الثورة المضادة؛ خشية انتعاش الربيع العربي مرة أخرى، وهذا ما يفسر استنفار السيسي أمس واجتماعه بالقادة العسكريين، فالأمر بات متعلقًا بأمنه الشخصي. صحيح أن اللقاء قيل إنه جاء أيضا عقب تصريحات إثيوبية مستفزة عن ملء سد النهضة في يوليو دون موافقة مصر أو السودان، ولكن الموقف الإثيوبي معروف منذ شهر مارس ولم يتحرك السيسي لحماية أمن مصر، بينما تحرك مباشرة عقب أنباء تحرير أهم قاعدة عسكرية ليبية وعودتها إلى الشرعية. فالمواجهة في ليبيا تمثل صورة كلاسيكية ونادرة تكشف اصطفاف محور الثورة المضادة والقوى الدولية الداعمة له التي تربصت بالربيع العربي، فحفتر تلقى الدعم من السيسي وملك الأردن وابن سلمان ومحمد بن زايد والموساد، وبوتين، وسقوطه يمثل سقوط هذا المحور في ليبيا، ومقدمة لسقوطه في كل العالم العربي. بل إن نتائج المواجهة في ليبيا، بعد السيطرة على قاعدة الوطية، تمثل تهديدا استراتيجيا لإسرائيل؛ لأن استباب الأمور لحكومة الوفاق يعني السماح بتطبيق اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، وهذا الاتفاق يمنع إسرائيل من تصديرها الغاز إلى أوروبا؛ لأن المياه التي سيمر خلالها الأنبوب ستكون تركية، بحسب المحلل الفلسطيني صالح النعامي. أيضًا ما يجري في ليبيا هو معركة استراتيجية يراقبها العالم كله، تتعلق بنوعية السلاح المستخدم وكفاءته، والذي قلب المعادلة العسكرية في الأشهر الأخيرة لصالح قوات الحكومة الشرعية في طرابلس، والتي انتهت بتحرير قاعدة الوطية الجوية الاستراتيجية. وذلك رغم الدعم المقدم لحفتر بأحدث أنواع الأسلحة الروسية والصينية والفرنسية، إلا أن السلاح التركي وخاصة الطائرة "بيرقدار" المسيرة، نجحت في تضليل منظومات الدفاع الجوي الروسية المتطورة التي أرسلتها الإمارات لقوات حفتر، وتفوقت عليها ودمرت ثلاث منظومات منها في يومين فجعلتها أثرا بعد عين، كما دمرت طائرة صينية مسيرة حديثة وأسقطتها، فهذه معركة خطيرة للغاية، لأنها تكشف عن تطور نوعي وتقني في منتجات السلاح التركي، بما يفوق قدرات منتجات السلاح الروسي والصيني. ويجري تصدير السلاح التركي الآن من طائرات هليكوبتر وصواريخ وسفن حربية ومدرعات، إلى الكثير من بلدان العالم، كما تشارك تركيا في صناعة الطائرة الأمريكية المقاتلة إف 35، فخر العسكرية الأمريكية، لكن ما يحدث في ليبيا يعلن رسميا عن ميلاد عملاق جديد، سيفرض نفسه حتما على معادلات سوق السلاح العالمي في المرحلة المقبلة. ماذا تعني السيطرة على الوطية؟ تعني السيطرة على هذه القاعدة العسكرية المهمة (محليا) ما يلي: 1. انتهاء معركة الوطية يعني تعزيز الموقف العسكري لحكومة الوفاق وانتهاء عدوان حفتر، الساعي إلى السيطرة على طرابلس بصورة كبيرة وإضعاف قوات حفتر بشكل عام، ومن ثم قرب السيطرة على المليشيات التي تقصف طرابلس وتوقع عشرات القتلى والجرحى. 2. سقوط قاعدة الوطية مكسب كبير ومؤثر في حرب طرابلس، وقد تصبح نقطة انطلاق حيوية لقوات الوفاق لتخفيف الضغط على العاصمة واستعادة السيطرة على مناطق جديدة. بعبارة أخرى، الآن تستطيع قوات الحكومة الشرعية أن تغني: "على ترهونة.. على ترهونة"، فسقوط مشروع حفتر تدريجيا سيمهد الطريق إلى ترهونة وجنوبطرابلس ثم سرت وقاعدة الجفرة الجوية وفزان. 3. هزيمة معنوية وإحباط شديد بين قوات حفتر التي يشكل المرتزقة الروس والأفارقة جزءا كبيرا منها، وكان هروب الكثير منهم خلال المعارك الأخيرة سببا في نقص قوات حفتر على الأرض، ما سهل هزيمتها. 4. سيطرة القوات الحكومية على قاعدة الوطية (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، يمثل ثاني سقوط لغرفة عمليات رئيسية في المنطقة الغربية التابعة لمليشيا حفتر، بعد سقوط مدينة غريان (100 كلم جنوبطرابلس)، في 26 يونيو 2019، فالقاعدة التي أحكمت مليشيات حفتر السيطرة عليها في 2014، مع بداية ما أسمتها ب"عملية الكرامة"، لم يسبق لأي قوة مهاجمة أن وضعت يدها عليها، بما فيها عملية فجر ليبيا (2014-2016). أما على المستوى العربي والدولي فتعني السيطرة على قاعدة الوطية ما يلي: 1. هزيمة كبيرة لمعسكر الثورة المضادة وحلفاء حفتر في العالمين العربي والدولي وانتصار الربيع العربي؛ لأن من يدعمون حفتر يتحركون وفق رؤية معادية للربيع العربي ترى أن حكومة الوفاق تضم مجموعات من الإسلاميين المؤثرين، وأن سيطرة هؤلاء على ليبيا تضر مصالحهم. 2. انتصار كبير لتركيا التي دعّمت حكومة الوفاق بالسلاح، خصوصا الطائرة بيرقدار، وتدخلت في ليبيا، فقلبت الطاولة على حفتر وداعميه. 3. هزيمة للمشروع الروسي والفرنسي في ليبيا، إذ يسعي الكرملين للحصول على قواعده العسكرية القديمة في ليبيا التي فقدها، فيما يسعى قصر الإليزيه إلى الحصول على نفوذ عسكري وسياسي، والأهم نفط ليبيا. 4. هذا الحدث لن يكون مجرد سيطرة على قاعدة جوية، وإنما ستكون له تداعياته على كامل المنطقة. الخلاصة أنه بسقوط قاعدة الوطية، تكون القوات الحكومية قد اقتلعت أكبر حصن لحفتر في المنطقة الغربية، ويبقى أمام عناصر حفتر الفارين منها إما التحصن ببلدات في الجبل الغربي (الزنتان والرجبان والصيعان والعربان)، وهي مناطق معظمها منقسمة الولاء، ويتفادى الناس الاقتتال فيما بينهم بسبب وجود منظومة اجتماعية تمنع ذلك، أو التوجه إلى محاور القتال جنوبيطرابلس وفي مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس(. وبسقوط قاعدة الوطية، من المتوقع أن تبدأ مرحلة جديدة في كامل ليبيا، بتساقط جميع قطع الدومينو، بدءا من ترهونة، وجنوبطرابلس، ثم مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، وقاعدة الجفرة الجوية، التي تمثل مفتاح السيطرة على كامل إقليم فزان (الجنوب(. وإذا سقطت هذه المناطق خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة، فإن مليشيات حفتر مرشحة للانهيار في إقليم برقة (شرق)، خاصة وأن عقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق، حشد قبائل برقة في صفه، بعد محاولة حفتر التخلص منه في الفترة الأخيرة. وإذ سقط مشروع حفتر في المنطقة الشرقية فهذا يمهد لفتح حوار مع الحكومة الشرعية برعاية أممية وضمانات دولية، يفضي إلى مرحلة انتقالية، تنهي الحرب الأهلية، وتسمح بإجراء الاستفتاء على دستور جديد وانتخاب رئيس وبرلمان يسمح بدخول البلاد مرحلة الاستقرار.