بينما أصدر مجلس الوزراء الإثيوبي بيانًا اعتبره مراقبون قولا فصلا، يشدد فيه على عدم المشاركة بأي مفاوضات بشأن سد النهضة، في إشارة واضحة للأعمى بأن أديس بابا لن تشارك في ملهاة المفاوضات الشكلية برعاية أمريكا، تصر مخابرات الانقلاب على تضليل المصريين عبر أذرعها الإعلامية والصحفية، وعلى رأسها صحيفة "اليوم السابع". ونشرت "اليوم السابع"، في عددها الصادر اليوم الأحد تحت عنوان "مصر توقع بالأحرف الأولى على الاتفاق حول قواعد محددة لملء وتشغيل سد النهضة"، تقول: "الخارجية: نقدر دور واشنطن وحرصها على التوصل إلى اتفاق نهائى بين الدول الثلاث.. والسودان تطالب بضرورة التوصل لاتفاق شامل قبل بدء ملء السد". ما يخفيه جنرال إسرائيل السفيه عبد الفتاح السيسي عن المصريين، أن رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" يدرك ضعف الرئيس الأمريكي ترامب خلال فترة ما قبل انتخابات البيت الأبيض، لكن الأهم ما صرح به وزراؤه من قبل بأن السفيه السيسي وقّع بالفعل تنازلًا عن حق مصر بمياه النيل، مقابل اعتراف إثيوبيا به كرئيس. التنازل جرت عادة السفيه السيسي، عند حديثه عن أزمة سد النهضة طوال الخمس سنوات الماضية، أن ينكر وجود الأزمة من الأساس تارة، وأن يطمئن المصريين بقدرته على حلها والسيطرة عليها تارة أخرى، حيث تناقض موقفه المتراخي في مفاوضات السد مع حديثه المعسول عن الأزمة. ولأول مرة عند حديثه عن الأزمة يقلب الجنرال عادته ويغير موقفه، ويعتبر بناء السد منتهى الخطورة، وهو وإن كان في حديثه الأخير عن مخاطر السد قد قلب كلامه السابق ومواقفه القديمة، فقد نطق بالحقيقة التي يعرفها كل مصري. لكن الغريب هذه المرة هو استدعاء السد وإقحامه في الرد على اتهامات محمد علي له ولزوجته بالفساد، وهو ما قالت بعض وكالات الإعلام الأجنبية إنه تم بتوجيه من جهة سيادية. لم يكتف السفيه السيسي بإقحام أزمة سد النهضة في التشويش على اتهامات الفساد، ولكنه ارتكب مغالطة أخرى واتهم ثورة يناير باعتبارها الغلطة المسئولة عن شروع إثيوبيا في بناء السد، والتي لولاها ما بُنيت سدود على نهر النيل، وحذر المصريين، وهذا هو المهم بالنسبة له، من تكرار الثورة التي اعتبرها أخطر من بناء السد. جدير بالذكر أن مخطط بناء سد النهضة وغيره من السدود قد بدأ الكشف عنه في ستينيات القرن الماضي، وبأن إثيوبيا أعلنت عن بناء السد في 2010، وأن المخلوع الراحل مبارك طلب من الخرطوم إنشاء قاعدة عسكرية لاستخدامها إذا أصرت إثيوبيا على بناء سد، وفق وثيقة نشرها موقع ويكيلكس ويعود تاريخها إلى 26 مايو 2010. ومع فشل خطط الإلهاء التي يفتعلها السفيه السيسي، وخروج المصريين بأعداد كبيرة للتظاهر في القاهرة والمحافظات، في 20 سبتمبر 2019، استدعى السفيه السيسي سد النهضة ومخاطره أمام اجتماع الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة. ووظف الإعلام الحكومي المجند لأجندته، والأذرع الإعلامية المحلية والإقليمية الرافعة له الحدث، ودعا إلى تكاتف المصريين جميعا من أجل قضية سد النهضة وحلها بدلا من مشاهدة الفيديوهات البذيئة التي تحرض ضد مصر، وفق ما أوردته صحيفة الأهرام لسان حال الجيش، في إشارة إلى فيديوهات المقاول الفنان محمد علي. في 2011 أثبت تقرير سابق اطلعت عليه مصر، أن حكومة إثيوبيا تخفي كثيرًا من المعلومات الحيوية عن السد، وتتعامل معها بسرية تامة، وأوصى الخبراء بضرورة وضع تصميمات جديدة للسد، وبإتاحة كل المعلومات المتعلقة ببناء السد، وإجراء دراسات إنشائية وبيئية واقتصادية جادة وحديثة، وقد أقرت إثيوبيا بما ورد في التقرير، ووقع الخبيران الأثيوبيان عليه كاملًا. مرسي يهدد بالحرب ويحسب للرئيس الشهيد محمد مرسي أنه استخدم مخرجات تقرير اللجنة الدولية، والذي اعترفت إثيوبيا بكل ما ورد فيه من مخاطر، في مطالبة إثيوبيا بوقف بناء السد إلى حين التأكد من أنه لا يشكل خطرًا على أمن مصر المائي. وباعتباره رئيسا منتخبا، تبنى الرئيس الشهيد سياسة حشد القوى الشعبية وتوحيد الصف الوطني في مواجهة أزمة سد النهضة، ودعا أحزاب المعارضة للاجتماع في مقر الرئاسة، وأطلعهم بشفافية على ما ورد في تقرير اللجنة الدولية، وهو الاجتماع الذي دبر السفيه السيسي إذاعته على التلفزيون الرسمي على الهواء مباشرة دون علم المشاركين، واعتبرت أذرع العسكر حينها أن ذلك فضيحة وعلامة ضعف للرئيس الشهيد مرسي!. ثم عقد الرئيس الراحل مرسي مؤتمرا شعبيا "المؤتمر الوطني للحفاظ على حقوق مصر في مياه نهر النيل"، لتطمين المصريين بقدرة الدولة المصرية على الحفاظ على مياه النيل. وقال في كلمته أمام المؤتمر، الذي عُقد قبل انقلاب يوليو بثلاثة أسابيع، وعلى الهواء مباشرة، أخطر مما قيل في اجتماع أحزاب المعارض، وهو التهديد صراحة باستخدام القوة ضد إثيوبيا. وشدد على أن "أمن مصر المائي لا يمكن تجاوزه أو المساس به على الإطلاق، وإنني كرئيس للدولة أؤكد أن جميع الخيارات أمامنا مفتوحة في التعامل مع هذا الملف، ولا نسمح أبدًا بأن يهدد أمننا مائيًا أو غير ذلك، وإن نقصت مياهه قطرة واحدة فان دماؤنا هي البديل". كانت إثيوبيا في موقف قانوني ودولي ضعيف بعد خروج تقرير اللجنة الدولية للعلن وإقرارها بما ورد فيه من إدانات، ولم تتهم الرئيس الشهيد مرسي بإعلان الحرب، ولم تلجأ إلى الاتحاد الإفريقي أو الأممالمتحدة للاعتراض على خطاب الرئيس الشهيد، واكتفت بإطلاق تطمينات لمصر بعدم الضرر، لعلمها أن القانون الدولي لا يعطيها الحق في بناء السد دون موافقة مصر. وكان أمام مصر، في عهد الرئيس الشهيد مرسي، خيارات كثيرة للحفاظ على حقوقها المائية قبل اللجوء للقوة، منها إجبار إثيوبيا على وقف بناء السد في مراحله الأولى لحين إتمام الدراسات الفنية، استنادًا إلى معاهدات 1902، و1959، التي تعطي مصر حق الفيتو والاعتراض على المشاريع التي تهدد أمنها المائي، واستنادا إلى الاتفاقية المعنية بمياه الأنهار الدولية التي أقرتها منظمة الأممالمتحدة عام 1997. ومن الخيارات رفع القضية إلى الأممالمتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومحكمة العدل الدولية، والاتحاد الإفريقي، لاستصدار قرار يلزم إثيوبيا بوقف أعمال البناء في السد حتى لا تؤدي الأزمة إلى اشتعال الصراع بين الدول الثلاث وتهديد السلم والأمن الدوليين. وهو المطلب الذي أشار إليه السفيه السيسي على استحياء في الأممالمتحدة، ولكنه جاء متأخرًا عن موعده ست سنوات كاملة، وقد جرت في النهر مياه كثيرة، وقارب السد على الاكتمال ووقوع الكارثة!! وكان من الممكن التمسك بتخفيض حجم السد إلى حجمه الأول، والذي أعلنت عنه إثيوبيا وهو 14 مليار متر مكعب بدلًا من 75 مليار، وكان من المتاح التفاوض على عدد سنوات الملء الأول لخزان السد بما لا يضر بمصر بأي ضرر ذي شأن، وذلك وفق اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، الأممالمتحدة 1997، المطالبة بالمشاركة في إدارة وتشغيل السد، كما أوصت بذلك اللجنة الدولية، لضمان تنسيق عمليات التشغيل بين سد النهضة والسد العالي. السد مقابل الكرسي! في الخامس من يوليو 2013، وبسبب الانقلاب العسكري والإطاحة بالرئيس الشهيد المنتخب محمد مرسي، قطع السفيه السيسي الطريق على مصر في استخدام الخيارات السابقة، وحرمها من إمكانية وقف بناء السد في مراحله الأولى. وعلَّق مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي عضوية مصر في الاتحاد الذي يضم 54 دولة، بسبب "انتزاع السلطة بشكل غير دستوري"، وهو الإجراء الذي استخدمته إثيوبيا لاحقًا في مساومة السفيه السيسي ليعترف بالسد في مقابل الاعتراف بشرعية دولية وعودة مصر لعضوية الاتحاد. وفي يناير 2014، رفضت إثيوبيا وجود الخبراء الدوليين ضمن اللجنة، لما وجدته من خطورة بسبب آرائهم المؤيدة لحق مصر في وقف أعمال البناء في السد، وتوقفت "اللجنة الدولية لتقييم الدراسات الإثيوبية لسد النهضة" عن استكمال أعمالها. وبدلًا من تمسك مصر بوجود الخبراء الدوليين ضمن اللجنة والاستفادة من موقفهم المحايد والذي يدين إثيوبيا أمام المؤسسات الدولية، تنازل السفيه السيسي عن شرط وجود هؤلاء الخبراء، واتفق السفيه السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي على استئناف المفاوضات بدون خبراء أجانب في يونيو 2014، ما أحال اللجنة إلى حلبة للصراع بين الدول الثلاث دون وجود الرأي الحيادي الفاصل في النزاعات. وفاجأ السفيه السيسي المصريين، ووقع اتفاق المبادئ المثير للجدل في مارس 2015 مع إثيوبيا والسودان، والذي بمقتضاه تنازل السفيه السيسي عن حصة مصر القانونية والتاريخية في مياه النيل، والأخطر من ذلك أنه أعطى شرعية للسد كان محرومًا منها، وفي المقابل حرم مصر من اللجوء إلى الأممالمتحدة لوقف بناء السد إلا بموافقة إثيوبيا، وهي بالتأكيد لن تفعل!.