في الوقت الذي تتجاهل فيه السلطة الانقلابية مطالب العمال والسائقين والموظفين والأطباء وفي الوقت الذي يدعو فيه قائد الانقلاب "عبد الفتاح السيسي" فقراء الشعب المصري للتقشف إلى حد حضهم على الذهاب إلى أعمالهم سيرا على الأقدام بدعوى مراعاة الظروف الاقتصادية الصعبة للبلاد ووضعها المالي المتأزم. فتح الانقلابيون خزانه الدولة على مصراعيها لإنفاق الملايين بلا ضابط أو رابط على جهاز الشرطة وقيادته وأفراده منذ الانقلاب العسكري وحتى الآن، تنوع هذا البذخ في الإنفاق ما بين زيادة في الرواتب أو المكافآت، فضلًا عن الخدمات والبدلات وكأنهم يعيشون في معزل عما تعانيه الدولة من ظروف اقتصادية طاحنة. فلم يمضِ يوم واحد على دعوة قائد الانقلاب للمصريين بالتقشف إلا وظهر علينا وزير داخلية الانقلاب يصرح إعلاميًا خلال لقائه بأفراد وأمناء الشرطة بمقر مديرية أمن المنوفية بزيادة الميزانية المخصصة لعلاج أفراد وأمناء الشرطة إلى 30 مليون جنيه سنويًا.. منوها بأنه تم التعاقد على شراء 50 ألف سلاح جديد ومتنوع من الخارج لتسليح جميع أفراد الشرطة! وكان قد سبق وأمر عدلي منصور رئيس سلطة الانقلاب المعين في منتصف شهر فبراير الماضي، بزيادة رواتب الشرطة 30% كبدل مخاطر، بعد تنظيمهم إضرابا عن العمل وهو ما تم اعتماده فعليًا! وفي السياق نفسه كشف مصدر أمني في تصريحات صحفية في أول شهور الانقلاب أن الحملات التي تشنها داخلية الانقلاب كلفت الدولة (400) مليون جنيه. وأوضح المصدر أن الحملة الأمنية الواحدة التي تقوم بالقبض على أعضاء التحالف الوطني وجماعة الإخوان المسلمين تُصرف لها (20) ألف جنيه مكافأة للضباط والجنود المشاركين في الحملة. من جانبهم أكد خبراء سياسيون أن زيادة المكافآت والميزانيات الخاصة التي تمنح لأفراد وزارة الداخلية بهذا السخاء منذ الانقلاب العسكري من يوليو من العام الماضي حتى الآن، هي بمثابة "رشوة" من قادة الانقلاب لزيادة قمع الرافضين لحكم العسكر، ولضمان ولاء الجهاز الأمني لتوجهاتهم القمعية الاستبدادية.
تكريس دولة الفساد في هذا الإطار يقول الدكتور يسري حمّاد -نائب رئيس حزب الوطن- أنه لا يمكن قراءة الزيادة الكبيرة في مرتبات قيادات وأفراد قوات الشرطة والجيش معًا والتي بلغت ثلاثة أضعاف الحد الأدنى بعد الانقلاب العسكري في خارج إطار السعي الدءوب من قِبل الانقلابيين لتكريس دولة الفساد وتمكين الدولة الأمنية بأقبح صورها من جديد، مؤكدًا أن الهدف الأول من وراء هذا الإنفاق الكبير هو تمكين أركان الانقلاب الهش من خلال الممارسات القمعية التي تقودها داخلية الانقلاب ضد المعارضين، مشيرًا إلى أن وزارة الداخلية تنفق ملايين طائلة منذ بداية الانقلاب العسكري على شراء الأسلحة بهدف تقتيل أبناء الشعب المصري لا لجُرم ارتكبوه سوى لأنهم معارضون لهذا الانقلاب الدموي، وأضاف أن هذا الإنفاق الكبير يأتي في الوقت الذي يُصدر فيه الانقلابيون الصورة القاتمة للوضع الاقتصادي المتردي للمصريين للبلاد داعين الفقراء والمطحونين لزيادة التقشف والحرمان على الرغم من تضخم أرصدتهم في البنوك وما يمتلكونه من عقارات وسيارات فارهة!
د. يسري حماد: الانقلاب يدعو الفقراء للتقشف وينفق على الداخلية بلا حساب بهدف تمكين أركانه الهشة وأشار حماد إلى أنه بالرغم من حرص الانقلابيين على التعتيم على كل الأمور الخاصة بما يفضح تضخم ثرواتهم وحجم ما يهدرونه من أموال طائلة تستنزف من أقوات البسطاء من خلال المحاولات المستمرة لتكميم الأفواه وغلق القنوات والصحف إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك، ولن يفلحوا في خداع الشعب الذي أصبح أكثر وعيًا بما يحاك ضده من مؤامرات تستهدف سلب كل حقوقه السياسية والاقتصادية في هذا الوطن، مؤكدًا أن هذا الوعي هو الرهان الحقيقي في إفشال كل مخططاتهم المغرضة.
تقسيم طبقي ومن جانبه اعتبر المحلل السياسي أحمد فودة -مدير مركز النخبة للدراسات بالقاهرة- أن الأموال الطائلة التي أنفقتها داخلية الانقلاب على قياداتها وأفرادها منذ قيام الانقلاب العسكري حتى الآن بجانب كونها لا تخرج عن إطار الرشوة لضمان ولاء أفرادها للتوجهات القمعية للجهاز الأمني فإنها على الجانب الآخر تعد تكريسا ممنهجا لدولة الفساد والتقسيم الوظيفي الذي سعت كل الأنظمة الاستبدادية السابقة لترسيخه منذ عام 1952 والتي تكون فيها سلطة رجل الأمن فوق أي سلطة لضمان ولائه للنظام؛ حيث تكون مهمته الرئيسية هي حماية النظام وليس حماية الشعب! وأضاف فودة أن هذه الزيادات التي يظن من خلالها الانقلابيون أنهم يشترون بها ولاء أفراد الأمن لتثبيت أركان انقلابهم ستكون أحد عوامل هدمهم؛ وذلك لما تكرسه من حالة انقسام طبقي يولد الأحقاد بين طوائف الشعب المختلفة, حيث إن هذا البذخ في الإنفاق على الداخلية يقابله تجاهل تام لمطالب الفئات البسيطة من العمال والسائقين والموظفين على الرغم من معاناتهم الحقيقية من تدني رواتبهم، مشيرًا إلى أن هذا السعي للتقسيم سيكون نذير ثورة جديدة كثورة يناير والتي خرجت للأسباب نفسها وهي جعل الشرطة والأجهزة الأمنية فوق كل السلطات، مشيرًا إلى ما يمارسه الانقلاب في هذا الصدد ينم عن غباء الانقلابيين الذين لم يتعلموا من دروس الماضي والتي قاد فيها الشعب ثورته ضد كل المستبدين.
د. أحمد فودة: الزيادات "رشاوى" لضمان ولاء أفراد الشرطة للتوجهات القمعية للجهاز الأمني وأكد فودة أن دعم سلطة الانقلاب وقائدها عبد الفتاح السيسي للأجهزة الأمنية الجيش والشرطة لم يقتصر عن حدود الإنفاق ببذخ عليهم على الرغم من تردي الأحوال الاقتصادية للبلاد؛ وإنما يتم مع ذلك دعم آخر وهو محاولة إيهامهم بأنهم محصنون مهما ارتكبوا من جرائم قتل وإبادة للمعارضين، وهو ما فضحته إحدى تسريبات السسيسي، والتي قال فيها إنه من يعتدي على المتظاهرين لن تتم محاسبته؛ وذلك بهدف إزالة أي مخاوف تراود رجال الأمن, وقال فودة إن جميع هذه التحصينات والامتيازات التي حصل عليها رجال الجيش والشرطة لم تكن بهدف دعهم كما يروج الانقلابيون؛ وإنما تهدف في المقام الأول لتمكين الانقلاب وقائده، مشيرًا إلى أنها على العكس ستكون أول معول هدم له لكونها الشرارة التي تعيد ثورة يناير التي كانت أول أهدافها العدالة الاجتماعية وليس التقسيم الطبقي الذي يرسخ له الانقلاب.