تسيطر فكرة العقاب الجماعي علي تفكير قادة الانقلاب العسكري الدموي؛ حيث اتخذوا منذ بدء الانقلاب على الشرعية وأول رئيس مدني منتخب آليات للعقاب الجماعي سواء لمؤيدي الشرعية في ميادين الاعتصامات، أو في قري ومراكز اشتهرت بتأييد الشرعية والرفض القوي للانقلاب، كما حدث ذلك في كل من دلجا، ناهيا، والعتامنة وسيناء. وبعد نجاح دعوات مقاطعة الاستفتاء علي وثيقة دستور الدم الانقلابي، عادت ميليشيات الانقلاب العسكري إلى نهجها في ملاحقة قري بأكلمها، وهي جرائم مضافة إلي المطاردة والملاحقة والقتل والقنص في الشوارع والجامعات لكافة مؤيدي الشرعية ورافضي وثيقة الانقلاب الدموي. وشهد يومي استفتاء الدم واليوم التالي لهما 14و15 و16 يناير الجاري- محاصرات وقتل وترويع آمنين وملاحقات وصلت إلي شعور المواطنين بالغاز المسيل للدموع غريب الأطوار في بيوتهم ليلاً، هذا بخلاف ما شهده يومي الاستفتاء من ارتقاء 12 شهيداً- وفقا لبعض الإحصاءات- واعتقال وإصابة المئات في مناطق متفرقة؛ نظرا لإصرار رافضي الانقلاب علي التظاهر السلمي والتعبير عن حقهم في مقاطعة ورفض وثيقة دستور الدم. أويش الحجر وفقا لمراسل الحرية والعدالة فقد حاصرت قوات الانقلاب قرية "أويش الحجر" الشهيرة ب"قرية القرآن" التابعة لمركز ومدينة المنصورة، في اليوم الثاني والأخير من استفتاء الدم، حيث أجبرت أصحاب المحال على إغلاق محالهم تحت تهديد السلاح، واعتقلت ميليشيات الانقلاب عددًا من الأشخاص بشكل عشوائي من الشوارع والمنازل، وكان ذلك عقب قيام عدد من البلطجية التابعين للانقلاب بفض وقفة رافضة لدستور الدم باستخدام الخرطوش. يذكر أن "أويش الحجر" ارتقى منها شهيدان فى مجزرة رابعة العدوية، وهما أحمد ذكى ضياء، والصحفي أحمد عبد الجواد. المنصورية أطلقت قوات الانقلاب العسكري قنابل الغاز المسيل للدموع على أهالى المنصورية بالجيزة، فى محاولة لوقف المظاهرات الحاشدة التى نظمها أبناء القرية منذ صباح اليوم الأول لاستفاء الدم، إلا أن المحاولات الأمنية باءت بالفشل، واستمر الأهالى فى التظاهر فى ظل خلو اللجان من الناخبين، وعدم الإقبال على الاستفتاء بالقرية المعروفة بتأييدها للتيار الإسلامى. جامعة القاهرة من ناحية أخرى وفي مشهد علي ما يبدو يأتي كعقاب للشباب علي مقاطعتهم الظاهرة والمؤثرة لاستفتاء الدم، فعقب تنظيم الطلاب لتظاهرة حاشدة،خرجت إلى مديرية أمن الجيزة بعد اجتيازها ميدان نهضة مصر تنديدا بفصل واعتقال زملائهم، فقد اقتحمت قوات الانقلاب حرم جامعة القاهرة- عصر الأربعاء 16 يناير- وأضرمت نيران الرصاص الحي والخرطوش والقنابل المسيلة للدموع علي الطلاب دون هوادة، وهو ما أدي إلي ارتقاء شهيدين من الطلاب بخلاف الإصابات والاعتقالات والتي لم يتم حصرها حتي الآن. هذا بخلاف محاصرة المدينة الجامعية لجامعة القاهرة والتعاون مع بلطجية منطقة بين السرايات من أجل إحكام الحصار علي الطلاب، وهو ما أوقع العديد من الإصابات نتيجة الاختناقات من أثر إلقاء قوات الانقلاب الغاز المسيل للدموع فضلاً عن الضرب بالخرطوش بكثافة، كذلك أحكمت قوات الانقلاب غلق المدينة بالكلاب البوليسية للاعتداء علي كل من أراد الدخول من الطلاب. ناهيا وفي ناهيا وعقب خروج المسيرات الرافضة لاستفتاء الدم؛ قابلت قوات الانقلاب تلك التظاهرات السلمية بالقصف والقتل؛ حيث ارتقي شهيدين هما "حسني العقباوي" و"عاطف الحلفاوي" في مسيرات اليوم الأول من استفتاء العار. وعندما شاهد الجميع المقاطعة الشاملة للجان الاستفتاء في لجان ناهيا جميعها تقريبا، وأثناء عودة الأهالي من تشييع جثامين الشهداء وخلال تنظيمهم مسيرة حاشدة تندد بالانقلاب ودستوره الباطل، فإذا بوابل من الضرب والقصف والقنابل المسيلة للدموع، والتي أفاد أكثر من شاهد عيان بأنها لابد أن تكون قنابل من نوع غريب من الغازات، حتي كاد الناس يختنقون وهم في داخل منازلهم. وعقب ذلك تم غلق الشوارع الرئيسة في القرية وعمل حصار بالمدرعات وأكمنة الجيش، وحلقت هناك الطائرات علي مسافة قصيرة للغاية، فضلا عن قطع التيار الكهربائي عن القرية مما أدي إلي صعوبة معرفة الشهداء أو إنقاذ المصابين، وقد أدي الاعتداء إلي ارتقاء شهيد جديد هو "شادي حسين جمعة"، وهو الشهيد الثالث لاستفتاء دستور الدم والثامن على مستوى القرية منذ 2 يوليو الماضي والشهيد الأخير شاب بسيط سائق علي خط "ميكروباص"، لأب مريض، وأم تعمل لتساعد الأسرة. هذا بخلاف الإصابات الكثيرة وأكثرها إصابات بالرصاص الحي والخرطوش في القدم، وأحد المصابين أصيبت عينه كذلك ومن المحتمل ألا يري بها مرة أخري، فضلا عن إصابة جسده ب 19 رصاصة خرطوش. من جانبها وفي تصريح خاص قالت- ماجدة أبو المجد الصحفية المقيمة في قرية ناهيا- أن أهالي القرية عاشوا حالة استثنائية، ينتظرون الاقتحام في كل وقت، وتتربص بهم قوات الانقلاب، خاصة وهم يعملون علي تنظيم فعالية ثابتة ومستمرة كل يوم خميس تحت اسم "منصة رابعة"، ولم تتوقف سوي أسبوعين فقط أثناء فترة الاقتحام الأولي في 19 من سبتمبر الماضي. وفي أثناء فعالية المنصة الخميس الماضي- 16 يناير- بعد اعتداءات قوات الانقلاب، جاءتهم معلومات أن قوات جيش الانقلاب ستأتي لضرب المنصة؛ فانتفض لها ثوار وأحرار وحرائر القري المجاورة في كل من كرداسة وبني مجدول وكفر حكيم. وهكذا يعيش الأهالي في "ناهيا" والقري المحيطة حالة استنفار وكأنهم وقعوا في براثن احتلال أجنبي، حتي أن الطيور التي تشتهر بتربيتها كافة القرى استيقظ الأهالي صباح الخميس الماضي فوجدوا أكثرها قد نفق من أثر غاز ورصاص قوات الانقلاب، كذلك الفتيات كثير منهن يعاني من ضيق في التنفس نتيجة الغاز غير الطبيعي والذي وصل أثره للنساء والأطفال في البيوت. تطور القمع وتحليلاً لما يحدث يري الدكتور صلاح عز- الكاتب والمحلل السياسي- أن القمع يتطور الآن؛ حيث تصاعدت مستوياته علي مراحل منذ بدء الانقلاب؛ فقبل مذابح الفض كان القمع في أقل مستوياته ظناً منهم أن المظاهرات ستنتهي وأن الأمور سرعان ما سيهدأ، وأن مؤيدي الشرعية سرعان ما سيملون وينصرفون، وهو ما لم يحدث وأضاف عز أنه عندما رأى الانقلابيون أن الجماهير مستمرة ومصرة علي التظاهر والاعتصام، ارتفع سقف القمع إلي مستويات عليا جدا تمثل ذلك في مذابح الفض ثم تهديدات بالقتل والقنص في الشوارع والميادين، فلم يجدوا أيضا استجابة ولا توقف للتظاهرات؛ ومن ثم أصدروا قانون التظاهر، فأسقطه رافضو الانقلاب وجعلوه كأن لم يكن، فعاد القمع وتصاعد أيضا، حتي صار الضرب بالخرطوش والرصاص الحي أمرا مستمرا في كافة الأيام، ومع جميع أنواع التظاهرات، ثم عاد الانقلاب وظن أنه سيصنع لنفسه شرعية بعد الاستفتاء علي دستور الدم، وفي المقابل وجدوا دعوات المقاطعة تزيد وتنجح وتحقق مآربها علي الوجه الذي ظهر عليه يومي الاستفتاء، ومن هنا تصاعد القمع من جديد. وتابع أن الانقلاب ليس أمامه سوي إستراتيجية "الهروب إلي الأمام" وتعني هنا مواجهة المقاومة بمنتهي القسوة والعنف والقمع. وهذا ما يجعلهم يرفضون كافة الحلول السياسية منذ البداية؛ فهم يعلمون تماما أن فشل الانقلاب يعني بالنسبة لهم الموت، ومثلهم في ذلك مثل الكيان الصهيوني، حين يعلمون أن فقد سيطرتهم علي فلسطين وانتهاء الاحتلال يعني تعليقهم علي المشانق كلهم، وهكذا أيضا الانقلابيين في مصر؛ ولذا فليس أمامهم من شيء سوي تصعيد القتل والعنف، سعيا لاجتثاث الإسلاميين من مصر -والإخوان في القلب منهم-، وكذلك القضاء علي حماس في غزة، ومن ثم إرضاء الطرف والعدو الصهيوني وتحقيق مآربه، ومن خلفه تحقيق مآرب أمريكا والحصول علي رضاها، وهي نفسها سياسة المخلوع مبارك، والتي كانت تعني أنه: "طالما رضيت عني أمريكا فلن أبالي". وأشار عز أنه عندما يصل الأمر إلي اقتحام جامعة القاهرة، فهذا يعني الإنذار والإشارة إلي تصعيد مقبل مكثف من قبلهم، فالأمر في الحقيقة صراع إرادات، والانقلاب في ذلك يعمل علي اختيارين فقط، وهو إما أن يهدأ الشعب ويمل وينسي القضية، وإما أن يلجأ مؤيدو الشرعية إلي العنف والقتل المتبادل؛ حتي يشيعوا أمام العالم أنه كان لديهم حق في قتل هؤلاء وتفريق اعتصاماتهم لأنهم أقوام يستخدمون العنف، وهو ما لا يصح أن يستدرج إليه رافضو الانقلاب أبدا. وبشأن الاقتحام والتربص بأماكن وقري بعينها يري-عز- أن تلك الأماكن من المعروف أنها صوتت بكثافة من قبل للتيار الإسلامي وجماعة الإخوان في كافة الاستحقاقات الانتخابية، ولذا فتلك الأماكن تعاقب الآن علي أمرين، الأول هو ممارستها للديمقراطية، والثاني أنهم اختاروا الدكتور مرسي والإخوان- نسبة التصويت في ناهيا لرئيس مرسي في انتخابات الرئاسة 87%- ومازالوا علي العهد والشرعية ويتظاهرون ضد الانقلاب. وهكذا يستمر القمع الجماعي علي أمل من الانقلاب أن يبعث برسائل تهديد وتخويف للآخرين. ويقول :" هنا نعود أيضا لاقتداء الانقلاب بالكيان الصهيوني، حين عاقب الفلسطينيين علي ممارسة الديمقراطية عام 2006 لأنهم جاءوا بحماس إلي الحكم، وكان العقاب متنوعا ما بين محاصرة وضرب وشن حرب، ومازال العقاب ساريا ومستمرا إلي اليوم، وهو ما يعني أن الانقلاب وأعوانه يبعثون برسالة إلي العرب بأنه محظور عليهم الممارسات الديمقراطية، وأن عليهم أن يعيشوا فقط تابعين ذليلين تحت أقدام العملاء والمأجورين في المنطقة. وتابع-عز- أن فكرة العقاب الجماعي من قبل الانقلاب لابد أن يستمر في مواجهتها الكثرة والحشود الشعبية التي تقوض أركان الانقلاب من تحته وتفض من حوله القوي التي كان من الممكن له أن يرتكز عليها، ولذا فالوقت ليس في صالح الانقلاب لأنه في كل يوم يخسر أرضا جديدة وينضم لمعسكر رافضيه مجموعات جديدة من الشعب. الورقة الأخيرة من جانبه يؤكد أحمد فودة - المحلل السياسى ومدير مركز النخبة للدراسات- أن ما يحدث هو استمرار في سياسة التنكيل بمعارضي الانقلاب بشكل عام، ولكن يضاف إليها التنكيل بمقاطعي الاستفتاء خاصة في الأماكن التي شهدت مقاطعة شاملة كناهيا، فالانقلاب الآن بعد أن فشل في تمرير الدستور الدموي بالشكل الذي يريده يسعي لاستخدام العنف الذي لا يجيد غيره وبشدة أكبر، وذلك كحل أخير من قبله لمواجهة معارضي الانقلاب، في حين أنه من المؤكد فشله- بإذن الله- كما فشل من قبل. ويري "فودة" أنه من المعروف في عالم السياسية أن من يلجأ إلي القوة المفرطة فهذا لا يعني سوي أنه في النزع الأخير له، فالإفراط في العنف والقهر والقتل الورقة الأخيرة في أية لعبة سياسية، وقد كانت محاولة الانقلاب في الأيام الماضية ترمي إلي حصوله علي شرعية من خلال تمرير الدستور وعندما فطن إلي فشله في ذلك، عاد إلي تصعيد وتيرة العنف بشراسة، لأنها السلاح الذي لا يعرف غيره. وألمح إلي نزوع الانقلاب إلي القوة المفرطة يؤكد أن تلك المسيرات والحشود وحتى التظاهرات الطلابية هي في حقيقتها فعاليات قد أثبتت نجاحها في قلب الموازين وإرباك خطة الانقلاب في الاستقرار والتي كان يظن أنه سريعا ما سيحدث، في حين أنه وبعد أكثر من ستة أشهر لم يستطع أن يوقف المطالبين بالشرعية رغم كافة الجرائم والاعتداءات التي لحقت بهم، بل إن اتساع دائرة الضحايا أدت إلي اتساع دائرة الفئات المتضررة والغاضبة علي هذا الانقلاب وأعوانه.