كثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق يكونون فى الدنيا أذلاء مقهورين مغلوبين دائما، وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى بنصر دينه وعباده وكتابه، ومن سوء الفهم فى كتابه. ومن حالة اليأس والإحباط التى سيطرت على النفوس، للأحداث الجارية على الساحة وقد ورد النهى عن اليأس والقنوط من رحمة الله ومن فرجه (وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [الحجر: 87] (لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [غافر: 53] (.. بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 55-56]. والله سبحانه قد بين فى كتابه أنه ناصر المؤمنين فى الدنيا والآخرة. قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) [غافر: 51]. (وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56]. (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ * كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20-21]. (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج: 38) (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14]. فى هذه الآيات تقرير أن المؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا. وقد قال تعالى للمؤمنين: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139] (فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَّتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 35]. فما الحكمة من التمكن والنصر الموهوم أو المتوهم على الساحة للظلمة والانقلابيين على أصحاب الحق والحقيقة والشرعية ؟ وأين نصر الله إذًا مع هذه الأوضاع؟ أقول وبالله التوفيق، فى هذه الأوضاع الجارية حكم بالغة، ودروس تربوية، ومعالم إيمانية وهاك بعضا منها: 1- أنهم لو كانوا دائما منصورين، غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول. فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد. فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله والدار الآخرة، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه، (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 140]. 2- أن ما يصيب المؤمن فى هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له فى بعض الأحيان: أمر لازم، لا بد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية فى هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، وذلك لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير فى هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التى مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه فى دار أخرى، غير هذه الدار، كما قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الأنفال: 37]. 3- أن ما يصيب المؤمنين فى الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء، ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والظلمة والفسقة لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: (وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [النساء: 104]. فاشتركوا فى الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى (وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 41-42] (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء: 21]. 4- أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء وأتباعهم السائرين فى موكب الشرعية بعد موتهم، إن لم ينتقم لهم فى حياتهم وذلك لوعده الحق وما على أتباع الشرعية إلا الصبر والثبات قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف 41-44] كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل قتل به سبعين ألفا. 5- أن ما يصيب المؤمنين والأبرار فى هذه الدنيا من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الظلمة والمجرمين والفجار والفساق بكثير. والواقع شاهد بذلك. (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30] وقال عن فريق المجرمين وأعداء الشرعية (وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 26] (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم: 33] هكذا قال تعالى عن أصحاب الجنة الذين قرروا منع الفقراء حقوقهم المشروعة بعدما أحرق لهم جنتهم لنية السوء التى بيتوها فى قوله (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [القلم: 19-20] و"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" والكفر هنا كما ينطبق على كفر العقيدة ينطبق على كفر النعمة. 6- أن الإنسان مدنى بالطبع -وهكذا كل فرد من أفراد الشرعية- لا بد له أن يعيش مع الناس، يحمل جنسيتهم أبى من أبى وشاء من شاء، ولو كره المجرمون -والناس- أعنى الانقلابيين من الأمراء الظلمة، والوزراء الفسقة، والقضاة الخونة، والفقهاء الكذبة الذين أشار إليهم الحديث، لهم إرادات وتصورات، واعتقادات، فيطلبون من -فرد الشرعية وجمعهم- أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، اعتقلوه أو اغتالوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، كما فى الحديث -إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم- فلا بد لفرد الشرعية وجمعه، من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم. وفى الموافقة ألم وعذاب، إذا كانت على باطل، وفى المخالفة ألم وعذاب، إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم، وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم فى باطلهم أسهل من الألم المترتب على موافقتهم. واعتبر هذا بمن يطلبون من أصحاب الشرعية الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم. فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم أن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم. اعتبر ذلك بالواقع المر الأليم المعاش الآن الانتكاسة التى حلت بأرض الكنانة، وإجبار الانقلابيين للناس على "حارقة الطريق" وإلا أحرقوهم أو صعقوهم أو خنقوهم أو سحقوهم أو سحلوهم أو... والحبل على الجرار كما يقولون. 7- أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض والموت والحياة وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7]. وقال (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف:7]. وقال (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك: 2]. وقال تعالى (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1-3]. فالناس مع رسالات الرسل وما جاءوا به من الحق، إما مؤمن مذعن أو مدبر معرض ويستمر على السيئات والعصيان، ولا بد من امتحان هذا وهذا. فى هذه الدار وفى البرزخ، وفى القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية. فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضا والتسليم ما يهون به عليه محنته. وأما الظالم والمنافق والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم 8- امتحان الله تعالى للمؤمنين بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم ويصفيهم كما قال تعالى فى حكمة أحداث يوم أحد: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 139-141]. 9- الظلمة والمبطلون والانقلابيون سيموتون وتموت آثارهم ولا يبقى لهم فى الدنيا أثر ولا خبر. إلا العار والشنار وفى الآخرة الخزى والبوار، وإن قهروا شخصا من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس، ولذا المحقون والذين مع الحق والشرعية فآثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون فى أعمال البر والخير. 10- المبطلون والظلمة والانقلابيون وإن كان يتفق لهم -حينا- أن يحصل لهم استيلاء وتسلط على المحقين، ففى الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمرا وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق. (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان: 20], فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين فى الدنيا، وصدق الله العظيم إذ يقول فى أمر جلل، نزل بالمؤمنين، وما كان أحد يتوقع فيه خيرا (لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11]. هذا وبالله التوفيق، ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.